أزمنة أحمد الخطيب
يمرُق خبر وفاة الديمقراطي العروبي العتيد، الدستوري الكويتي، النائب الطبيب، أحمد الخطيب، عن 95 عاماً، فتتدافع إلى الخواطر حزمٌ من الأفكار عن أزمنةٍ عربيةٍ مضت، عبر فيها هذا الاسم الكبير، وعن ساحاتٍ سياسيةٍ وفكريةٍ اشتبك فيها، ليستحقّ وصفَه رمزاً وطنياً، ليس في بلده الكويت وحسب، وإنما أيضاً في الأفق العربي العام. ولمّا كان خرّيج كلية الطب في الجامعة الأميركية في بيروت، في العام 1952، قد ساهم في تأسيس حركة القوميين العرب، مبكّراً، مع وديع حداد وجورج حبش وهاني الهندي وغيرهم، ولمّا كان نائباً في مجلس الأمة، عندما حاز أعلى الأصوات، في انتخابات 1963، فإنّ جهداً خاصاً لا بدّ منه لتعريف الأجيال العربية به، سيما أنّه أعلن بنفسه، في 1996، اعتزالَه العمل البرلماني في الكويت، وكتب وقال إنّ المرحلة الحالية (ما بعد منتصف التسعينيات ..) تتطلّب وجوهاً جديدة تتحمّل المسؤولية. وهو الذي ظلّ يخوض الانتخابات النيابية في بلده، يتقدّم فيها ويتراجع، ومثّل في مجلس الأمة (خمس مرّات آخرها في برلمان 1992) حضوراً لعقل تقدميٍّ ديمقراطيٍّ حقوقيٍّ مستنير، وقد كان قبل هذا كله عضوا في المجلس التأسيسي في 1962، وانتُخب نائباً لرئيسه، المجلس الذي أصدر دستور الكويت الذي شارك الخطيب في كتابته. وقال تالياً إنّ هذا الإنجاز لم يكن سهلاً وميسّراً، وإنّ ثلاثة عوامل ساهمت فيه: نضال الكويتيين الشعبي والقومي والوطني، والمد القومي في المنطقة العربية، ووجود الأمير الراحل عبد الله السالم في الحكم.
توازى، إذاً، في تجربة أحمد الخطيب المساران، الوطني المحلي والقومي العربي، منذ مطالع خمسينيات القرن الماضي وصولاً إلى النقطة الأسوأ، الاحتلال العراقي للكويت في صيف 1990. وكان طيّباً أنّ الراحل سطّر مذكّراتٍ، وافيةً إلى حد كبير، طافت على معتركاتٍ كويتيةٍ وخليجيةٍ وعربية، وجالت على الخاص والعام، وتعدّ وثيقة كاشفة ومهمة، وقد صدرت في جزأين، سمّاها "الكويت: من الإمارة إلى الدولة .. ذكريات العمل الوطني والقومي" (المركز الثقافي العربي، بيروت، 2007). وبالنظر إلى شحٍّ حادٍّ في مذكّرات أهل العمل العام في بلدان الخليج العربية، وعزوفهم عن الإفصاح عن أنفسهم وعن مسارات تجاربهم، فإنّ مبادرة أحمد الخطيب إلى تيسير سيرتِه لجمهور القرّاء العام، وهي مقاطع غنيةٌ من سيرة بلدٍ وأرضٍ وشعب، ومن تجربةٍ عربيةٍ في الأفق القومي العام، تستحقّ تثميناً بالغاً. ويُضاعف من أهميتها أنّ صاحبها، وهم الاسم اللامع في غير شأن (أول طبيب كويتي متخرّج)، لم يعترف في تدوينه هذه المذكّرات (والذكريات) بخطوط حمر، وكَسَر تابوهاتٍ غير قليلة، ولم يعمد إلى تعظيم أحدٍ أو تفخيم فلان أو علان، وحضرت في كتابته أنفاسٌ نقديةٌ، شجاعةٌ، ومراجعاتٌ جريئة. وربما جاز وصفُ من وصفوها بالحدّة، في غير موضعٍ فيها. وربما لهذا السبب، استُقبلت، منذ نشرها حلقاتٍ في صحيفة "الجريدة" الكويتية، بردودٍ غير قليلةٍ ساجلتْها، وحاجَجت "مغالطاتٍ" فيها. ولعل من أهم هذه الردود ما كتبته الشاعرة سعاد الصباح. ولأن "أهل مكّة أدرى بشعابها"، يكتفي صاحب هذا التعليق المتعجّل بالتأشير إلى القيمة العالية لهذه الروحية في أجواء الاختلاف والأخذ والرد، سيما وأن أحمد الخطيب لم يتعامل مع ما نوقش فيه، وأُخذَ عليه، بانفعالٍ وتوتّر. ولأنّ لكلّ مقام مقالا، فالمقال هنا في مقام رحيل هذا المثقف البارز، رحمه الله، هو الدعوة إلى قراءة هذه المذكّرات، للإطلال منها على مروحةٍ من الإشكالات الميدانية العربية، منها الدسترة والديمقراطية والانتصار لفلسطين (والثورة الجزائرية و...) وتعظيم المشتركات العربية والعمل التشريعي (بشأن التأمينات الاجتماعية والقوانين العمالية و.. إلخ). وفي أمر حركة القوميين العرب التي كان من نشطائها ومؤسّسيها في بيروت، كتب إنّها خلت من أي مشروع نهضوي وتنموي، ونعت فكرَها بأنّه متعالٍ وعنصري وفاشي، و"يضمر العداء للأقليات غير العربية".
يتحدّث عارفو أحمد الخطيب وأصدقاؤه وزملاؤه وكثيرون ممن التقوه عن كاريزميةٍ باديةٍ في شخصيته المحبوبة، وعن حنكةٍ اتّصف بها، تأتّت له من خبراته الواسعة والعريضة في النشاط العام، كويتياً وعربياً، وعن صدقية إيمانه بالديمقراطية التي ما توقّف يوماً عن الإلحاح عليها في بلده، وقد وصفها بأنّها "مسار التاريخ"... وهذه واحدةٌ من مآثر ناصعةٍ في تراث ضوْءٍ في فضاء الكويت والخليج والأمة، اسمُه أحمد الخطيب.