أرض جوفاء .. وإنسان غير أجوف

31 يوليو 2021
+ الخط -

في كتابه "أرض جوفاء"، قدّم المعماري الإسرائيلي إيال وايزمان توثيقاً نادراً لآليات توظيف الاحتلال الإسرائيلي الهندسة المعمارية، بحيث تحوّلت إلى سلاحٍ لا يقل فتكاً عن المدافع.

كان وصف العمارة كسلاح جوهر "الهندسة المعمارية لأرئيل شارون"، وهو العنوان الذي حمله فصل في الكتاب، يروي رفض شارون بعد حرب 1967 رؤية كانت تعتبر بعثرة المستوطنات عائقاً للجيش. وكان شارون معارضاً بارزاً لخط بارليف، واعتبر أن مزيجا من قواعد عسكرية ومستوطنات متفرقة في سيناء سيمثل دفاعاً أقوى من أي حدود صلبة. لاحقاً نقل رؤيته إلى الحياة المدنية.

تم إنشاء المستوطنات في مرتفعات الضفة الغربية، لتسيطر على الوديان التي يقبع فيها الفلسطينيون، كأنها قواعد استطلاع عسكرية متقدمة. وكذلك أقيمت المستوطنات على حدود الأردن وفي قلب الضفة، كأنه حرف H الإنكليزي، ليمزّق اتصال الأراضي الفلسطينية، وكذلك تم تفعيل الآليات نفسها في القدس، بحيث تقطع الأحياء اليهودية اتصال الأحياء العربية.

استثمرت إسرائيل في "تعزيز التعقيد" ليصبح من المستحيل إقامة دولة فلسطينية متصلة جغرافيا، إلا أن السياسة نفسها أدّت إلى القضاء على إمكانية الفصل بين الدولتين واقعيا، وعزّزت من دعوات حل الدولة الواحدة.

يسرد الكتاب نماذج عديدة لتحول أرض فلسطين إلى كيان ثلاثي الأبعاد، تحتفظ إسرائيل بالسيادة الجوية فوقه بالكامل، بينما تتداخل مناطق السيادة على سطح الأرض، حتى أن بعض المباني في القدس تم اقتسامها، ثم ينتقل الصراع إلى باطن الأرض الذي أصبح مجوّفاً، ومن هنا يأتي اسم الكتاب.

رفض ياسر عرفات في "كامب ديفيد" (العام 2000)، عرضاً بحصول إسرائيل على السيادة تحت الحرم القدسي، وخصّصت إسرائيل أنفاقاً للفلسطينيين لتفصلهم عن الطرق المخصصة للمستوطنين، أو للمرور تحت الجدار العازل، وكذلك امتد الصراع إلى ملفات المياه الجوفية، ومياه الصرف الصحي. وفي المقابل، أقام الفلسطينيون في غزّة مدينة موازية من الأنفاق.

تطرّق الكتاب أيضا إلى دور مواد البناء. في الفصل الخاص بالقدس، يفسّر صدور قرار فور سقوط المدينة بإلزام أي بناء فيها بأن يُكسى بالحجر، بأنه سعي إلى تذويب القدس داخل حزام من مستوطنات تحمل مظهرا يوحي بالأصالة التاريخية. ينقل الكتاب عن عزمي بشارة سخريته من تلك المفارقة: "في القدس فقط، يمكن للحجر الطبيعي أن يظهر كعنصر غريب داخل الجبال ذاتها التي اقتُلع من صخورها".

وثق الكتاب أيضا عشرات الألاعيب القانونية العنصرية، مثل مواد تؤدّي عملياً إلى منع فلسطينيي الداخل من الإقامة في مستوطنات الضفة، على الرغم من أنهم نظرياً مواطنون إسرائيليون يتمتعون بحقوق اليهود نفسها في التنقل والإقامة.

وبقدر أهمية الكتاب، فإن سيرة كاتبه لا تقل إلهاماً. وُلد إيال وايزمان في حيفا عام 1970، وهو حفيد لناجين من الهولوكست. سعى وايزمان إلى مخاطبة الرأي العام الإسرائيلي والدولي عبر محطات عديدة، منها على سبيل المثال تنظيمه عام 2002 معرضا بعنوان "احتلال مدني". قرّرت جمعية المعماريين الإسرائيليين منع عرض المشروع في مؤتمر برلين الدولي، وأتلفت آلاف النسخ من فهرس المعرض. لاحقاً غادر وايزمان إسرائيل، حيث انتقل إلى لندن، وأسس عام 2011 مركز "فورينسك أركيتيكتشر" أو "الهندسة الشرعية" نظيرا للطب الشرعي المستخدم في الأدلة الجنائية.

شملت أعمال المركز توثيق آثار الغارات الإسرائيلية على غزة، وكذلك أثر المبيدات السامة التي ترشّها الطائرات الإسرائيلية على زراعة غزّة، فضلا عن انتهاكاتٍ حقوقية في العالم من سورية ولبنان، وصولاً إلى توثيق اعتداءات الشرطة الأميركية على متظاهري "حياة السود مهمة" في الولايات المتحدة.

حين التقيت وايزمان للمرّة الأولى في لندن سألته: ما الذي دفعك إلى كل هذا المسار في حياتك؟ لماذا أنت مختلف؟ أجاب بدهشة حقيقية: "أنا لم أفعل شيئاً أكثر من الطبيعي!". روى أنه حين يذهب لزيارة والديه في إسرائيل لا يمكنه احتمال البقاء طويلاً، لأنه يشعر بأنه ضيف في منزل لم يدعُه أصحابه لدخوله. قال "أي إنسان مكاني سيصل إلى النتيجة نفسها إذا فكر بذلك". عبارته صحيحة لو كانت "أي إنسان غير مجوّف"، وما أكثر المجوّفين بلا عقول أو قلوب.