أخطبوط الفساد في العراق باقٍ ويتمدّد

28 فبراير 2024
+ الخط -

سألتُه إثر عودته من زيارته للعراق، بعد عشرين عاماً على آخر زيارة له، عن انطباعاته التي حملها من هناك. أجابني بأن ما خرج به أن العراق تحوّل، على مدى السنوات العشرين، إلى أخطبوط فساد كبير وضخم، حتى كادت كلمة الفساد تكون مرادفة تماماً لكلمة العراق، بل أصبح الفساد والعراق أشبه بوجهي العُملة الواحدة. ولكي يقرب لي صورة الأوضاع هناك على حقيقتها، كما قال، سألني ما إذا كنتُ أعرف شيئا عن حيوان الأخطبوط، ولم ينتظر أن أجيبه، بل تابع: "حيوان ذكي، له عدة أدمغة، وله مجسّات طويلة يتحسّس بها ما يواجهه، وجسمُه أقرب إلى قطعة إسفنج يمكنه ضغطها للولوج إلى داخل الشقوق الصغيرة، وله أذرعٌ تنمو مجدّداً كلما تعرّضت للإصابة، ويشهد له العلماء بحدّة ذكائه وقدرته على التلوّن والتخفّي في سعيه إلى اصطياد فريسته.

وبحسب ما نقلته صحيفة نيويورك تايمز، رصد مرّة فريق من العلماء واقعة خروج أخطبوط من حوض السمك الوطني في ويلينغتون (عاصمة نيوزيلندا) متسلّلاً من سياج الحوض الذي كان يحتويه مع عشرات الأسماك والحيوانات البحرية، وأخذ طريقه منزلقاً إلى فتحة تصريف المياه الأرضية ليذهب إلى البحر، ويُنقذ نفسَه من مصيرٍ لا يرتضيه، وفسّر العلماء ذلك بأنه دليلٌ على خصيصة الذكاء التي يتمتّع بها.

استطرد محدّثي، بعد أن أدرك أنني عرفت قصده: "عليك أن تتخيّل، إذاً، أن أخطبوط الفساد في العراق بهذا القدر من الذكاء، والخبث أيضاً، وبهذه الأذرع الطويلة التي يُمكنها أن تمتد الى أي مكان، وبهذه القدرة على التلوّن والتخفّي، والأكثر من ذلك بإمكانية مجابهة كل من يجرؤ على فضحه أو محاولة النَّيْل منه. هكذا هو حال العراق اليوم، لقد امتدّ الفساد إلى كل زاويةٍ وميدان، وليس ثمّة شاردة ولا واردة إلا واصطبغت بلوْنه، وفي بغداد يندُر أن تحضر مجلساً من دون أن يكون للفساد والفاسدين في أحاديث الحضور النصيب الأوفر، وقد سمعت في مشاركتي في أكثر من مجلس وقائع لا يرقى إليها الشكّ، وصل بعضُها إلى القضاء أو إلى هيئة النزاهة، لكنها، في نهاية المطاف، طُويت، أو سوّيت على نحوٍ ما، وعفا الله عما سلف. الأنكى أن بعض أبطال فضائح الفساد جرى التحقيق معهم، وتم حجز أموالهم، وصدرت بحقّ بعضهم أحكام قضائية باتّة، وأودعوا السجن، لكنهم ما لبثوا أن تسلّلوا، بقدرة قادر، إلى خارج الحدود، تماماً كما تسلّل أخطبوط نيوزيلندا الذي روت حكايته النيويورك تايمز".

أخطبوط الفساد باقٍ ويتمدّد، ولا بد لمواجهته من عملية جراحية كبرى لا يتقنها إلا جرّاحون مهرة قد لا نعثُر على أحدٍ منهم في عراق اليوم

لم يترُك لي محدّثي مجالاً للتعليق، إذ واصل سرد انطباعاته، مشيراً إلى ضجيج صادم في الأوساط الإعلامية، ولدى مجموعات التواصل الاجتماعي، واجهه في أثناء زيارته، محوره حكاية عن مسؤول عام بدرجة "رئيس"، قيل إن يده امتدّت لاغتصاب بيت فخم يعود لأحد رجال صدّام حسين، وحوله إلى ملكيّته، ومن ثم أجّره لسفارة عربية مقابل آلاف الدولارات. وبدلاً من أن يتحرّك القانون لمحاسبته، عمدت السلطة إلى غلق القناة التي فضحت هذه الواقعة، مع أن نائباً برلمانياً طالب بكشف الحقيقة للرأي العام، والمُضحك المبكي أن المسؤول نفسه اعتبر فضح الواقعة من ناشطين "ممارسة غير مقبولة"، ودعا إلى محاسبتهم، فيما سانده رئيس السلطة القضائية متوعّداً باتخاذ "كافة الإجراءات القانونية اللازمة".

يضيف محدّثي أن عشرات الفضائح المشابهة تتناسل كل يوم في العراق، مُحدثةً إجماعاً في الشارع على الطعن في صدقية حكومة محمد شياع السوداني وفاعليتها في محاربة الفساد. وإذا كان ثمّة من راهن، بشيءٍ من السذاجة على هذه الحكومة لفعل ما عجزت عنه الحكومات السابقة، فقد آن لهم أن يخسروا رهانهم، بعد أن تحوّل الفساد إلى "ثقافة" عامة في ظل ترويج "فتاوى" تعتبر المال العام مالاً سائباً يجوز التصرّف به، وما دامت الطبقة الحاكمة الموسومة بالفساد والإفساد قد تعلّمت أن تتحشّد وتتحد، وإن اختلفت أطرافها، لتحمي نفسها من أية نتائج تفقدها مواقعها في السلطة ومكانتها في المجتمع، هذا يعني أن أخطبوط الفساد باقٍ ويتمدّد، ولا بد لمواجهته من عملية جراحية كبرى لا يتقنها إلا جرّاحون مهرة قد لا نعثُر على أحدٍ منهم في عراق اليوم، وتلك هي العقدة.

كفّ محدّثي عن الكلام، وراح يتأمل في البعيد، وكأنه يبحث لهذه العقدة عن حلّ!

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"