أحمد الشملان أو تلك البحريْن
يا لبؤسِها تلك الصحافة، عندما تفترضُ في قرّائها الغباء، أو لمّا تريدُهم أغبياء. الشواهد يوميةٌ على سخافة مطبوعاتٍ صحافيةٍ ومواقع إلكترونية، في مزاولتها دورها هذا. صودف منها أخيراً أنّ أحمد الشملان شاعرٌ ومسرحيٌّ وحسب. لم تؤشّر جرائدُ في البحريْن وبعض الخليج، وشقيقاتٌ عربياتٌ لها في الطبطبة لأنظمة الاستبداد والثورات المضادّة، في أخبارٍ وتعليقاتٍ نشرتها عن وفاة هذا المناضل البحريني، أخيراً، إلى صفته هذه، فاقترفت اغتيالاً معنوياً لهذا الاسم المضيء في بلده البحريْن وجوارها الخليجي وأفقها العربي العروبي. لا يُراد لنا، ولأجيالٍ مستجدّة، أن نعرف أنّ أحمد الشملان الذي لا يُغيّب الموتُ سجلّ نضاله، والسنوات التي أمضاها في سجون بلادِه، شعلةٌ عاليةٌ في الكفاح والنضال الحقوقي والدستوري، والوطني العام الذي ظلّ يخوضُه في البحرين والخليج، قبل أن يُقْعدَه المرض منذ أزيد من عشر سنوات.
ثمّة فعلُ اعتداءٍ مُعلنٍ على ذاكرة الخليج الوطنية، على إسهامات نخبٍ في دوله في تعزيز المواطنة واستحقاقاتها، في تعظيم الوعي الحقوقي والدستوري، وفي تغليب الديمقراطية خياراً في العلاقة بين الحُكم والمحكومين. ثمّة هذا الاعتداء في تجهيل الناس بالشاعر المحامي، المثقّف اليساري، السجين السياسي مرّات، عضو حركة القوميين العرب في شبابه الأول إبّان مرحلته المدرسية الثانوية في الكويت، المشتبك بقضايا وطنه البحريْن، منذ شارك في انتفاضة مارس 1965، ليُعتقل بعدها عاميْن، ثم يُنفى نحو ثلاث سنواتٍ في الخارج، ويُعتقل في دبي في 1969، ثم يصبح عضواً نشطاً في الحركة الشعبية والجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي، وليُساهم في ثورة ظفار في 1971، ليعود تالياً إلى البحرين، وينضمّ إلى "جبهة التحرير الوطني البحريني"، فيُعتقل عاميْن جديديْن، ثم ينشط بعد 1974 في الحراك السياسي والعمّالي، في أجواء تجربةٍ برلمانيةٍ واعدة، حقّق في انتخاباتها وطنيون مستقلّون نجاحاً طيّباً مع "كتلة الشعب"، ثم مع إجهاض تلك التجربة، يُعاد اعتقاله، وبعد أن يخرُج من السجن في 1975 يسافر إلى موسكو لدراسة الماجستير في القانون الدولي، ثم يعود في 1981، ليؤخَذ إلى المعتقل خمس سنوات.
لا تحتمل تلك الصحافة أرشيفاً كهذا بتلك المسميّات التي تُذكّر بنضالٍ طويلٍ وصعبٍ خيض في بعض دول الخليج، سيما في البحريْن التي امتازت بحيويةٍ فكريةٍ وسياسيةٍ تبدّت في تطلّع نخبٍ واسعةٍ، من أبناء البلد ومثقّفيه، إلى خياراتٍ موصولةٍ بإيقاع تلك المرحلة عربياً، حيث التقدّمية واليسار والديمقراطية مفرداتُ تنظيماتٍ وتياراتٍ وفصائل سياسيةٍ وفكرية. لا تحتمل تلك الصحافة التي أرادت أحمد الشملان شاعراً ومسرحياً وحسب (أربع مجموعات شعريةٍ، ومسرحية شعرية، وكتب في الأدب والمقالة) التذكير بدور هذا الرجل، الصلب الإرادة، بعد إطلاق سراحه في 1986، في حركة المطالبات في البحريْن بعودة الحياة البرلمانية، وإعادة تفعيل الدستور، فكان عضواً في تأسيس لجنتي العريضتيْن، النخبوية والشعبية، المطالبتيْن بالحقوق السياسية والدستورية. وبصفته محامياً، دافع عن معتقلين سياسيين وسجناء رأيٍ. وفي الأثناء، استُدعي غير مرّة للتحقيق ومُنع من السفر، واعتُقل في 1996، ثم قُدّم إلى محكمة أمن الدولة التي حكمت ببراءَته، وواكبت قضيّتَه حملةُ تضامنٍ معه عالمية كبرى.
تعمّدَت هذه المقالة بسط هذا "الإيجاز" المُنتقى من بعض سيرة أحمد الشملان، رحمه الله، استهزاءً بالتغابي الذي تعاملت بعض الصحافات العربية مع نبأ وفاة الرجل. ورغبةً، في الآن نفسه، بتعميم معرفةٍ ملحّةٍ ومطلوبةٍ بهذا الاسم، ونضال صاحبه وصلابته ومقارعته الاستبداد والتسلّط السياسيين، مع رفاقٍ له عديدين، أبرزهم الراحلان عبد الرحمن النعيمي وعبد الأمير الجمري. وهو الذي لم يصرفه المرض السيئ عن إشهار مواقفه ضد التطبيع الجاري مع إسرائيل، وفي دعم المقاومة الفلسطينية، وضد كل التفافٍ على حقوق المواطن البحريني وحرّياته من دون تمييز، في مقالاتٍ ومساهمات عديدة. وقد كان عضواً مؤسّساً لمركز البحرين لحقوق الإنسان في 2002، العام الذي عُيّن فيه رئيساً فخرياً لجمعية المنبر الديمقراطي التقدمي (اليسارية). وهنا دعوةٌ إلى مطالعة الكتاب الوافي (أزيد من ألف صفحة) الذي أعدّته زوجة الراحل، فوزية مطر، عنه، ونُشر قبل أعوام، وضمّ مساهمات كتّابٍ ومثقّفين عديدين، أنصفوا أحمد الشملان، فأضاء الكتاب على تجربةٍ ملهمةٍ في البحريْن التي كان يريدُها الراحل غير التي نرى.