أحمد الشرع نسخة عرفاتية منقّحة ومزيدة
تعرّضت الثورة السورية في مدار سنواتها المديدة إلى ثلاث نكبات مروّعة، اثنتان من صنع خارجي (إيران وروسيا)، والثالثة ذاتية، حين انتشر الإرهاب في أذيالها، وشوّه وجهها لاحقاً، وكاد يفتك بها بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وفي غضون ذلك، واجهت الثورة جملةً من العثرات والأزمات والتحدّيات من داخل بيت الفصائل التي صارت مجموعةً من المعارضات المتنافسة (حتى لا نقول المتصارعة) في الزعامة والأحقّية ومناطق النفوذ والمرجعية والهُويَّة.
من مظاهر الخلل البنيوي، الذي صاحب نشأة ثورة الحرّية والكرامة، ورافقها طوال الوقت الطويل، افتقار المعارضة المتفرّقة، بما فيها الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، إلى أخ كبير عاقل وراشد، أو قل إلى تنظيم مركزي يُحسب لمواقفه الحساب، قويٍّ عُدّةً وعديداً، وذي وزن مُرجّح في صنع القرار، مثل العمود الفقري في الظهر، الأوّل بين أنداده في الصفّين الثاني والثالث، له القول الفصل، والأرجحية العسكرية، والدار السياسية الكبيرة، والموقف الذي يُؤخَذ به ولو على مضض، حتى وإن كان إشكالياً.
كما كانت الفصائل والقوى السياسية المعارضة تفتقر أيضاً إلى قائد ذي شخصية كاريزمية موثوقة وخلّاقة، موضع ثقة ومحلّ إجماع؛ قائدٍ عامٍّ بالتزكية، يختلف القادة الآخرون معه ولكن لا يختلفون عليه، ممثّل أعلى للثورة ورمز لها في الداخل والخارج، لديه كامل نصاب الشرعية، ويحظى فوق ذلك بشعبية مكتسبة بالسيرة الذاتية النظيفة، ومعزّزة بالأداء القيادي المُلهِم، تماماً على نحو ما درجت عليه حركات التحرّر الوطني والثورات الشعبية.
أخيراً، وبعد طول عناء، وفشل سياسي شديد، نجحت الثورة السورية (وهي إحدى أكثر ثورات الربيع العربي المغدور أهميةً) في إعادة إنتاج نفسها على نحو أفضل، حين تعاضدت في معقلها الأخير في إدلب حول أكبر فصائلها المسلّحة، هيئة تحرير الشام التي أعدّت للطاغية ما يلزم من رباط الخيل، إلى أن تمكّنت هي والقوى المتحالفة معها من دخول حلب، بضربة عسكرية خاطفة منظّمة وفعّالة، لتصنع نقطة التحوّل النوعي الفارقة، وتواصل الزحف برشاقة نحو الجنوب، وتدخل العاصمة في نحو عشرة أيّام هزّت الشرق الأوسط، وقلبت توازناته.
لسنا في هذه المقاربة التأملية بصدد عقد مقارنة ظالمة (وكل المقارنات ظالمة)، بين تجربتَين مختلفتَين، الفلسطينية والسورية، ولا بين قائدَين شكّلت شخصيةَ كلّ منهما معطياتٌ محلّيةٌ وظروفٌ موضوعيةٌ متباينةٌ (ياسر عرفات وأحمد الشرع)، وإنّما هي السياقات والمآلات والسمات المحتشدة في الذاكرة، تلك التي تحضر على عجل، راسمةً هذا التماثل كلّه بين مسارَين غير متطابقَين، وزعيمَين ليسا متشابهَين بالضرورة، اجتازا (كلّ على انفراد) معمودية النار والحصار والملاحقات، وعبرا من الهامش إلى المتن بأناة وتؤدة وكفاءة، وحقّقا (بنجاح متفاوت في أزمنة مختلفة) إنجازات ترقى إلى ضفاف المعجزات.
ليس الحديث هنا عن حركة فتح، كُبرى الفصائل الفلسطينية، ولا عن عرفات (الأخ القائد العام) رئيس الحركة ومنظّمة التحرير والسلطة الوطنية، بل عن هيئة تحرير الشام ذات الخلفية الأصولية، والهُويَّة السلفية الجهادية، المُصنَّفة إرهابيةً، المتحوّلة عن إرثها القاعدي المثقل بالعنف المُفرِط، وعن نزعتها الظلامية، إلى وضعية الأخ الأكبر، التي ميّزت "فتح" الفلسطينية بين شقيقاتها، إذ بدت "الهيئة" قائدةً بلا منازع لها على مركز صناعة القرار، صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة، بعد أن خلعت، بصعوبة، جلباب أبيها، وحملت عبء المسؤولية.
كما بدا أحمد الشرع، وقد صار الأخ القائد العام (أو ما يوازي ذلك)، على غير الصورة النمطية السائدة عنه، سيّما عندما دخل دمشق وأسقط حكم آل الأسد، وبات الرجل القوي في الشام، القائد المنتصر، الآمر الناهي، البراغماتي المتسامح مثل كلّ منتصر، وهو ابن النازح من الجولان (الجولاني) الذي غيّرته التجربة، وبدّلته الحقائق القاسية، وبدّلت خطابه وصورته وحساباته ومشروعه (الإمبريالية الإسلامية المجاهدة)، خاصّة حين اعتلى منبر المسجد الأموي وقال كلاماً حسناً، مثلما فعل جمال عبد الناصر عندما اعتلى منبر الجامع الأزهر، إبان العدوان الثلاثي، وقال قولته المأثورة "حَ نحارب"، وبالمثل، حين قعد ابن النازح الفقير على كرسي الأسد المُصدَّف، بربطة عنق أنيقة وقيافة أوروبية كاملة، رجلَ دولةٍ مدنيةٍ حديثةٍ (سورية الجديدة).
إزاء ذلك، يجوز القول بشيء من التحفّظ، وبروح مفعمة بـ"التفاؤل"، إن أحمد الشرع نسخةٌ معدّلةٌ قليلاً عن ياسر عرفات في شبابه، وطبعةٌ منقّحةٌ ومزيدةٌ كثيراً من سيرة (ومسار) ذاك الفدائي اللاجئ، الذي غيّر واقعاً مزرياً وصنع تاريخاً جديداً.