أجندة أفريقيا 2063: طموحات وتحدّيات

15 سبتمبر 2022
+ الخط -

تحوّل العالم مع منعطف الألفية الثالثة إلى مجتمع شبكي/ معولم، امّحت معه الحدود، وتنافذت بمقتضاه الاقتصاديات والثقافات، وتيسّرت معه حركة الأفراد، والجماعات، والمنتجات، بفعل التطور الهائل المشهود في مجالات التقانة، ووسائل النقل، والوسائط الرقمية. وغدت الدول الصاعدة تتنافس على الأسواق الاستهلاكية العالمية، وعلى تحقيق التنمية الشاملة، واستثمار الموارد الطبيعية والبشرية بشكلٍ محوكم. وتبذل المال والجهد والوقت والطاقة للانخراط، بشكل حيوي، في مجتمع المعرفة، وتعمل على رسم سياساتٍ طويلة المدى لاستشراف المستقبل، وتحشُد الإمكانات الذاتية لتحقيق الرفاه والتنمية المستدامة لمواجهة مخاطر محتملة، وأزمات داخلية، وصدمات خارجية ممكنة. وفي هذا السياق، عمدت دول عديدة وازنة إلى الانخراط في تكتلات اقتصادية، وسياسية، وعسكرية تكاملية، لتعزيز حضورها الفاعل في المشهد الدولي، ولتكسب معركة التنافسية، ولتتصدّى بشكل استباقي جماعي لمخاطر محتملة.

وفي ظلّ المتغيّرات الدولية المتسارعة، أدركت البلدان الأفريقية أهمية الاندماج الفاعل في الاقتصاد الكوني، وضرورة اللحاق بركاب الدول المتقدمة وبناء قارّة، يسودها القانون وتحكمها مؤسسات رشيدة تحقيقاً للسلام والازدهار والرفاه. وفي هذا السياق، وضع قادة الدول الأفريقية سنة 2013 ما يعرف بـ"أجندة 2063"، وهي إطار توجيهي/ استشرافي تقصّد توحيد أفريقيا، وتجميع جهودها وثرواتها الطبيعية والبشرية لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة على امتداد العقود الخمسة المقبلة (2013 - 2063). والمراد بناء قارّة مزدهرة موحدة، تعوّل على طاقات أبنائها وبناتها في تحقيق اكتفائها الذاتي وفي تفعيل حضورها الحيوي على الصعيد الدولي. وتحمل الأجندة المذكورة طيّها عدّة طموحات، لكن مشروع تحقيقها تعترضه تحدّيات كثيرة.

أصدر رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأفريقي في مايو/ أيار 2013 بمناسبة احتفالهم بالذكرى الخمسين لتأسيس الاتحاد الأفريقي (1963)، بمسماه السابق، منظمة الوحدة الأفريقية، بياناً رسمياً أقرّوا طيّه بالنجاحات والتحدّيات السابقة التي عاشتها القارّة، وعبّروا عن التزامهم تسريع وتيرة التنمية الشاملة والتقدّم التكنولوجي في أفريقيا. وأعلنوا ضمن ذلك البيان التاريخي إطلاق أجندة 2063، وهي وثيقة عمل استراتيجية مستقبلية شاملة، وخطّة طموحة لتغيير أفريقيا نحو الأفضل على مدى الخمسين سنة المقبلة (2063 - 2013). أشرفت على صياغتها وتطويرها مفوضية الاتحاد الأفريقي من خلال مشاورات مع مكوّنات الاتحاد الأفريقي، ومنظمات المجتمع المدني والمؤسّسات الإقليمية والأفريقية الفاعلة، وهي استراتيجية لتحسين استخدام موارد أفريقيا لصالح جميع الأفارقة. وتروم بناء أفريقيا متكاملة، مزدهرة، يسودها السلام، وتعوّل على طاقاتها الثرية والمتنوعة في تحقيق النهضة الشاملة. وتركّز أجندة 2063 على إشراك المواطنين في الشأن العام وصناعة القرار، وتمكينهم من أسباب المبادرة والقيادة، وتسعى لجعل أفريقيا قوة ديناميكية في الساحة الدولية، وإعطاء الأولوية لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة، والتكامل القارّي والإقليمي، وترسيخ الحكم الديمقراطي، والسلام والأمن، وتقليل عدد النزاعات، وتجديد مناويل التنمية الاقتصادية والاجتماعية لتكون في خدمة المواطن الأفريقي، ومطلب تمكين الشباب. والأجندة معنية بإيجاد فرص الاستثمار في مجالات حيوية، مثل الأعمال التجارية الزراعية، وتطوير البنية التحتية، والصحة والتعليم، وإيجاد مسالك جديدة لترويج السلع الأفريقية، ومواكبة التحوّلات الكونية، مثل انتشار العولمة وثورة التقانة الرقمية قصد ضمان انخراط أفريقيا بشكل فاعل في مجتمع شبكي، دولي، متنافذ ومُعَولم.

تعاني المجتمعات الأفريقية من كثرة المتسرّبين من المؤسسات التعليمية بسبب رداءة البُنى التحتية والفنية للقطاعين، التربوي والجامعي

ويواجه مشروع تنفيذ أجندة 2063 عدّة تحدّيات، من بينها الإخفاق في الإفادة من النمو الديموغرافي، واتساع دوائر الفقر، فضلاً عن التحدّي الاقتصادي وصعوبات تمويل الأجندة.

من الناحية الديموغرافية، أفريقيا ثالث أكبر تجمّع سكاني في العالم. عدد سكانها 1.2 مليار بحسب إحصائيات 2016، يمثلون 13% من سكان العالم. وتمتاز القارّة بأنّ أغلب سكانها من الشباب. ومع أهمّية هذا العنصر الديموغرافي، تجد الدول الأفريقية صعوبة في تحويله إلى معطى حيوي، دافع للتنمية، ذلك أنّ هذه الفئة العمرية التي يتزايد عددها سنوياً بشكل مكثف، وتحتاج إلى مواطن شغل قارّة ومستدامة. والثابت أنّ عدم إيجاد فرص عمل جديدة للشباب يؤدّي إلى إحالتهم على البطالة، وهو ما يشكّل عبئاً على أسرهم، ويؤدّي ذلك عملياً إلى تأخير مشروع إدماجهم في الدورة المهنية، ويؤثر ذلك بأوضاعهم المعيشية، ويحول دون تفعيل دورهم في تحقيق محامل أجندة 2063.

ومن المتوقع، بحسب تقرير صادر عن منظّمة العمل الدولية سنة 2019، أن يرتفع عدد السكان المؤهلين للعمل في أفريقيا من 705 ملايين في 2018 إلى ما يقارب مليار نسمة بحلول سنة 2030، وهو ما يشكّل عبئاً على الاقتصاديات الأفريقية، حيث تحتاج القارّة إلى إيجاد حوالى 30 مليون فرصة وظيفة جديدة سنوياً لمواجهة هذا النمو المتزايد في القوى العاملة. ومعلومٌ أنّ عدم التناسب بين معدلات النمو السكاني المرتفعة في القارّة وتزايد الحاجة إلى مواطن الشغل يولّد فجوة في مستوى القدرة على توفير مواطن عمل مستدامة. كذلك إن نقص المهارات الفنية والتقنية التي يحتاجها سوق العمل يجعل إدماج الشباب عموماً، وخرّيجي الجامعات خصوصاً، في الدورة التشغيلية صعباً. كذلك تعاني المجتمعات الأفريقية من كثرة المتسرّبين من المؤسسات التعليمية بسبب رداءة البُنى التحتية والفنية للقطاعين، التربوي والجامعي، وهو ما يجعل مرشّحين كثيرين للعمل لا يتوافرون على المهارات التدريبية المناسبة.

من المهمّ مراجعة الشراكات القديمة التي تكرّس تبعية أفريقيا المطلقة للآخر، وبلورة شراكات بينية، نافعة ومتوازنة في الداخل الأفريقي وخارجه

على صعيد آخر، يمثل انتشار الفقر تحدّياً حقيقياً، يواجه بلداناً أفريقية كثيرة، ويعطّل تنفيذ أجندة 2063. ويرجع ذلك إلى عدم وجود خطط استراتيجية، ناجعة وفعالة، لتوزيع الثروة والدخل بطريقة عادلة، فتدهور الوضع المادي للفقراء يؤثّر بنمط معيشتهم، ويمنعهم من الحصول على الحاجيات الأساسية التي تؤمن لهم العيش الكريم. وبحسب تقرير التنمية البشرية لعام 2019، الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتّحدة، فإن زهاء 44.7% من سكان أفريقيا جنوب الصحراء يعيشون تحت خط الفقر، ويتقاضون يومياً مبلغ 1.9 دولار، ويعاني ما يقدَّر بـ57.5% من سكان المنطقة المذكورة من الفقر متعدّد الأبعاد. فيما يشكو 35% من سكان أفريقيا جنوب الصحراء من الفقر المدقع، وهي النسبة الأكبر في الدول النامية. ومن خلال قراءة معدلات نمو الدخل الفردي، يتبيّن الدارس أن النمو الاقتصادي في الدول الأفريقية يختلف من المناطق الحضرية إلى المناطق الريفية الداخلية المهمشة، ومن الطبقات الثرية والوسطى إلى الطبقات الفقيرة، وهو ما يعني عدم وجود خطط حكومية دقيقة لتحقيق نمو شامل، وعادل، ومستدام، يُساعد على تنفيذ أجندة 2063.

من الناحية الاقتصادية، نصيب القارّة السمراء من الاستثمارات الأجنبية المباشرة ضعيف مقارنة بغيرها من الأقاليم في العالم، حيث ترد في مرتبة متأخرة في مستوى حصتها من التدفقات الاستثمارية. والملاحظ أن جل الاستثمارات الخارجية تتركّز على استخراج المواد الخام وتصديرها من دون التوجه نحو تكريرها واستثمارها في عمليات التصنيع المحلي. وبذلك، يتم بيع الثروات الطبيعية بثمن منخفض، لا يتناسب مع حاجيات الخزينة المالية في الدول الأفريقية. ويمكن تفسير محدودية الإقبال الأجنبي على الاستثمار في البلدان الأفريقية بعدة أسباب، لعل أهمها عدم الاستقرار السياسي، وحالات الانفلات الأمني، وانتشار الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية في أقطار كثيرة من القارّة، وتدهور البنى التحتية، وعدم وضوح السياسات الاقتصادية على المديين، القريب والبعيد، وقلة الأطر التشريعية والمؤسّسية المنظمة للاستثمار، وشيوع البيروقراطية الإدارية وانخفاض معدلات الربح، وارتفاع تكاليف الإنتاج. فهذه المعطيات مجتمعة تنفّر المستثمرين الأجانب، ولا تشجعهم على الاستقرار في أفريقيا والاستثمار فيها بشكل مستدام.

زهاء44.7% من سكان أفريقيا جنوب الصحراء يعيشون تحت خط الفقر، ويتقاضون يومياً مبلغ 1.9 دولار

كذلك إن قطاع الزراعة الذي يُعدّ مصدراً رئيسياً للدخل بالنسبة إلى جل سكان القارّة لم يشهد تطوراً نوعياً في مستوى تطوير عائداته في الدول الأفريقية، فما زال هذا القطاع الحيوي، تقليدياً، يفتقر إلى استخدام الأدوية الوقائية والأسمدة، والأجهزة الميكانيكية المتطوّرة، والتقنيات الجديدة في الزراعة والسقي. وجاء في تقرير صادر عن البنك الأفريقي للتنمية (2019) أنّ التهرب الضريبي يحول دون تأمين العائدات والإيرادات الضرورية لخزينة الدولة في أفريقيا. فبينما يبلغ معدل متوسط الضرائب حوالى 17% في معظم البلدان الأفريقية، فإن المطلوب لسدّ الاحتياجات التنموية يقدَّر بـ25%. وفي ظل محدودية الدخل الضريبي ومصادر التمويل الوطنية، تبقى مصادر التمويل الخارجي بديلاً غير ثابت لتحقيق التنمية المنشودة، وذلك بسبب عدم استقرارها، وخضوعها لمستجدّات الأوضاع الأمنية، وتغيرات الأحوال المناخية والسياسية في الدول الأفريقية. كذلك إن بعض الأزمات العالمية الطارئة، مثل جائحة كورونا وحرب روسيا على أوكرانيا، تعدّ صدمات خارجية أضرّت بالاقتصاد الأفريقي وقدرته على جذب المستثمرين والظفر بأسواق استهلاكية خارجية. هذا بالإضافة إلى ما لحق القطاع السياحي من أضرار بسبب عمليات إرهابية. وقد أفقدت هذه المعطيات الدول الأفريقية قدرتها على جذب السياح، وتوفير تمويلاتٍ جديدة يمكن أن تغطى حاجيات المواطنين، وتعزّز مساهمتها في تحقيق أجندة 2063.

ختاماً، يحتاج تحويل أجندة أفريقيا 2063 من حلم رائع إلى واقع معيش، يحياه النّاس، إلى إعادة بناء العقل السياسي الأفريقي على نحو يصبح معه تعميم الدمقرطة، والحوكمة الرشيدة، وإسكات البنادق، وضمان السيادة على الأرض والثروة أولوياتٍ، يعمل من أجلها أصحاب القرار. ومن المهمّ أيضاً مراجعة الشراكات القديمة التي تكرّس تبعية أفريقيا المطلقة للآخر، وبلورة شراكات بينية، نافعة ومتوازنة في الداخل الأفريقي وخارجه، تحقيقاً لمصلحة المواطنين الأفارقة، ولحلمهم بغد أفضل.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.