"أجنحة في زنزانة"

22 يناير 2016
+ الخط -
يحتاج قارئ "أجنحة في زنزانة"، كتاب مفيد نجم، (دار السويدي للنشر والتوزيع، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2015) إلى أرطالٍ من القدرة على احتمال الوطأة الثقيلة على النفس، وهو يُطالع مرويات الكاتب عمّا غالبه في سجون حافظ الأسد ثلاثة عشر عاماً. وإذ تروج تسمية "أدب السجون" على نصوص كتّابٍ عن سنوات احتجازهم القاسية في معتقلات بلادهم، فربما يكون الأنسب أن تنتمي هذه المسرودات إلى "أدب المقاومة"، وخصوصاً السورية منها، وفي صدارتها كتاب مفيد نجم الذي أحرز، أخيراً، جائزة ابن بطوطة في فئة اليوميات، ذلك أنّ تدوين الشناعة في جمهورية الظلام السورية، في جوهره، فعلٌ مقاوم لغرضها الأساس، محو الإنسان كياناً وذاكرة وقيمةً. وعندما يختار نجم العنوان الشديد الإيحاء لكتابه الحارّ، "أجنحة في زنزانة"، فإنه يركل سجّانيه بالازدراء الذي يستحقون، وهو الذي حمى صيحة الحرية التي استطاع أن يُخبئها في جوانِحه، في تلك السنوات.
يكتب الناقد الحاذق أن الصمت مقبرة الحياة. وعندما يستدعي ما كتبه من ذاكرته، بعد عشرين عاماً من مغادرته سجون الأسد، فإنه يُشهر احتجاجه على استباحةِ أي إنسان. ويأخذ كتابُه مطرحاً خاصاً بين كتابات المثقفين السوريين عن "تجاربهم" (!) في سجون النظام الذي يحتل سورية. ويُطالع القارئ فيه عن لحظاتٍ "غائرةٍ عميقاً في سوادها ورعبها الضاري"، قادمةٍ من "ذاكرةٍ مستقرةٍ عميقاً في النفس". ولأنها كذلك، احتاجت من صاحبها سرداً مشحوناً بزوبعة من أسئلةٍ لا تنتهي في بال القارئ، تخص السجّان غالباً، عن استقالته من آدميته، عندما ينصرف إلى التوحش، ولماذا، وضد ناسٍ لا جريرة اقترفوها سوى هجسهم بوطن أجمل وبعدالةٍ ما.
أنْ ترى قدّامك إعدام مساجين، كانوا معك، يؤانسونك وتؤانسهم في ساعات الوحشة الباهظة والمديدة. أنْ ترى سجّانين يمشون فوق جثث هؤلاء. أنْ تُعايش شخصاً قضت محكمةٌ ببراءته (إذا افترضنا أن للقضاء قيمة في جمهورية الظلام السورية)، ثم يُمضي أحد عشر عاماً في الاحتجاز. أنْ يمرَّ جرذٌ على رأسك، فيما تجول خواطرك على ما تشتهي من حرية. أنْ تنفق وقتاً ومجهوداً ذهنياً كثيريْن، وأنت تحاول التكيف مع التجويع الذي يُمارس عليك وعلى زملائك المأسورين، لقلة الطعام، معطوفة على قلة الأغطية في البرد. أنْ تتعايش مع قلة النظافة، وندرة الأوقات المتاحة لك في الحمّام. أن تمرض، فلا طبيب يداويك، إلا إذا صودف أن طبيباً سجيناً لك زميلاً معك. أن تشتري الدواء من نقودك القليلة إذا تمتعت برفاهية العلاج. أن تُعاين الجرب والقمل بين السجناء باعتبارهما من طبيعي الأمور. أنْ تُعايش من أودى بهم التعذيب الجسدي والنفسي إلى الجنون، ثم الموت، بعد السجن عشرة أعوام (عقل قربان بعد خطفه من لبنان). أن تتواطأ مع فداحة الحال، كالاختناق بالهواء الفاسد مثلاً. أنْ ترى السجانين يرتشون من السجناء ويبتزّونهم ويساومونهم. ... ذلك كله، وكثيرٌ جداً غيرُه، من صور وتفاصيل وفيرة يكتبها مفيد نجم، فتتأكد لديك قناعتك بأن نظاماً على هذه المرتبة من استباحته ناساً مغلوبين في سجونه، من المستحيل أن ينتصر في أي معركة، تعلقت بتنمية البلاد ونهوضها، أو مع إسرائيل، أو ضد أي اعتداء. لا مرجلةَ لنظام القهر الذي تتعرّف، هنا، على بعض أهوال الجحيم المديد في سجونه، سوى على مواطنيه، ومنهم سجينات من "الإخوان المسلمين"، لا يتوّرع سفّاحون من "سرايا الدفاع" عن اغتصابهن.
يكتب الصديق مفيد نجم، متّعه الله بالصحة والعافية، أن صفعات شديدة انهالت على وجهه من سجانٍ، كان يصرُخ، في الأثناء، مرددا قولة الأسد "لا مكان في البلد إلا للتقدم والاشتراكية". ويكتب متأملاً، من خارج سورية، ما يحلّ فيها الآن من تحطيم، ويروي المبكي والمحزن والعبثي والهزلي في منظومة الإرهاب الحاكمة هناك، في سردٍ متحرّرٍ في هواءٍ طلق، منتصراً على أولئك السجانين، وقد أرادوا إعطابَ روحه وهزيمتها، ثم لم يفلحوا، فقد حلقت أجنحة الخيال في تلك الزنازين، وتحلّق الآن في محبّة الحياة.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.