"أبو مازن" ... لاهوت التحرير الإسلامي
ودّعت "أجيال الصحوة" الإسلامية، قبل أيام (15/ 3/ 2023)، رضوان خليل عنان، الملقب "أبو مازن"، وهو أحد أشهر المنشدين "الحركيين". وكان ملاحظاً حجم التفاعل الشديد على وسائل التواصل الاجتماعي مع خبر وفاته، والحنين والعواطف المتدفقة من عشرات الآلاف من المتأثرين به وبأناشيده، من أجيال مختلفة من الصحوة الإسلامية، على الرغم من أنّه كان قد انقطع عن النشيد منذ نحو 40 عاماً!
برز اسم أبي مازن في السبعينيات والثمانينيات، عندما كانت المواجهات على أشدّها بين الحركة الإسلامية في سورية ونظام البعث، وكان ضمن مجموعة من المنشدين الذين شكّلوا مرحلة جديدة في النشيد الإسلامي، نقلوه من الجانب الروحاني إلى الدعوي والحركي والنضالي، أبو مازن وأبو راتب وأبو الجود وأبو دجانة، مع الشيخ الترميذي (اكتفى بالنشيد الروحاني والدعوي)، ومن بقي منهم معروفاً خلال الفترة التي تلت أحداث مذبحة حماة (فبراير/ شباط 1982) هو أبو راتب، الذي هرب إلى الأردن (قبل أن يستقرّ في المهجر لاحقاً)، بينما ذهب أبو دجانة إلى الخليج، وما نعرفه عن أبي الجود (مهندس) أنه بقي في سورية، فيما اختفى أبو مازن تماماً، من دون أي خبرٍ أو قصاصة معلومة عنه.
مثّل أبو مازن لغزاً حقيقياً على مدار عقود طويلة؛ والسبب أمران: الأول، اختفاؤه الكامل، مع عدم معرفة من هو؟ وما هي قصته؟ وراجت فكرة أنّه قُتل في السجون السورية، لذلك بقيت أشرطة الكاسيت هي التي تمثل شخصيته في أفكار الإسلاميين وأجيالهم المتتالية وذاكرتهم، ما أسبغ على هويته هالة كبيرة وتفخيماً لدى هذه الأجيال. الثاني (الذي جعل منه لغزاً) تلك الملحمية المدهشة والثورية الإسلامية المتوقّدة في أناشيده واختياراته قصائد لشهداء وإسلاميين، مثل الداعية إبراهيم رفعت، وهاشم الرفاعي وسيد قطب وغيرهم، والألحان الدرامية التي قدّم فيها تلك القصائد، ما جعل من أشرطته عقوداً ممتدّة (حتى بعد نهاية أحداث سورية) بمثابة لاهوت للتحرير الإسلامي، ومعلماً من معالم الإسلام النضالي، أو بتوصيف حامد ربيع "كفاحية الدعوة".
انتهى لغز أبي مازن بعد عقود من اختفائه، عندما اكتشف أردنيون أنّ الرجل على قيد الحياة، وأنه رجل أعمال (يمتلك مصنع نسيج) سوري، مهاجر في مصر، منذ عام 1987، ثم حضر إلى عمّان في عام 2002، وأقيم له احتفال حضرته نخبة من الإسلاميين، ثم أبدع المخرج الأردني الشاب، بشار غنّام، في الفيلم الوثائقي، الذي قدّمه لقناة الجزيرة عن أبي مازن، وفيه مقابلة مطولة معه، يحكي قصته، مع باقة من أناشيده الحماسية السابقة.
لم تكن دهشة "اكتشاف" الشخصية الحقيقية رضوان عنان (أبو مازن) أقلّ من لغز اختفاء الرجل، ومصدر الدهشة أنّ أغلب أشرطته سجّلها وهو طالب في الثانوية العامة، في غرفة صغيرة في منزله في حيّ المهاجرين في دمشق (تخيّلوا!)، وأنّه بعدما اعتقل فترة قصيرة، قرّر الاعتزال (بعد أن شعر بالإحباط من الأحداث)، ظناً منه أنّ ما قدّمه لم يؤثر كثيراً، ليختفي إرادياً (بعد أن أنهى دراسته الجامعية في سورية)، وغالباً عمل مدرّساً فترة، ثم يذوب في مصر، فلا يعرف أحد عن أمره شيئاً، وليفاجأ الرجل بعد ثلاثين عاماً (عند اكتشاف شخصيته الحقيقية) أنّ تلك الأناشيد شكّلت "الهوية الروحية" و"العاطفية" لأجيال متتالية من الصحويين، بما قد يصل إلى ملايين البشر!
ثمّة خيط مهم في قصته (ذكرها هو في "الوثائقي") أنّه من إنتاج "مجتمع المشايخ" في دمشق، فقد كان تأثّره شديداً بداعية اللاعنف جودت سعيد، وبالشيخ الداعية الفقيه أمين المصري، وكان يتردّد على مسجده في دمشق ناصر الألباني ومصطفى السباعي. ولعلّ إشارته هذه تمثل الميزة أو السمة الخاصة للظاهرة الإسلامية في دمشق، التي أشار إليها الباحث البلجيكي توماس بيريه في كتابه "الدين والدولة في سورية: علماء السنة من الانقلاب إلى الثورة"، إذ كان، وما يزال، دور فاعل وكبير للمشايخ والمساجد والجمعيات الدينية والطرق والزوايا الصوفية في بناء شبكة دعوية وتربوية وتعليمية وروحية.