أبو الريم
بوفاة أبو الريم، عدنان حاج عيسى، منيت بلدتي، معرتمصرين، بخسارة كبيرة. لماذا؟ وهل يوجد رجلٌ ما بهذه الأهمية؟ نعم، مع أن أبو الريم ليس من الزعماء والوجهاء والأدباء والأثرياء وذوي القوة الخارقة، ولكنه رجلٌ متفرّدٌ بذاته، وبمجموع خصاله الإنسانية النبيلة.
وعى عدنان على الحياة في عائلة حاج عيسى الصغيرة، التي لم تُسجل في تاريخ أحد من أفرادها مشكلةٌ أخلاقية، أو جنائية. وهي، كغيرها، عائلة ملتزمة دينياً، من دون تعصّب.. كان في أيام ولدنته، على ما يروي أقرانُه، مملوءاً بالحركة، مثل طَرّاد سريعٍ يلعب على صفحة بحيرة، يقفز، ويزحف، ويصعد على سطح جدار أملس، ويتشقلب على يديه، ويتعمشق على شجرة الدار، ويمشي على سورٍ ضيق. وعلى الرغم من هذه الطاقة كلها، لم يكن واحداً من الأولاد الذين يتشاجرون، أو يشكّلون أحلافاً في الحارة، أو يمارسون الألعاب الخشنة، بل كانت شيطناته مقترنةً بالتعقل، هدفها نشر المرح والضحك، ليس إلا .. ودخل المدرسة، ولم يكن كسولاً فيها، ولا متفوّقاً. وبعد نيله الشهادة الإعدادية، وبسبب فقر أسرته، اختار دار المعلمين، لأنها تتكفل بمصروف الطالب خلال السنوات الأربع. ولعل من حسن الحظ أنه اختار الفرع الموسيقي، فهناك اتجه القسم الأكبر من طاقاته إلى تعلّم العزف على العود، فكان يتعلّم بسرعة، وصخب، ولم يطل الوقت حتى انتقلت هوايته التي تشبه "السوسة" إلى تعلم أسرار الآلات الموسيقية الأخرى، الكمان، والقانون، والأكورديون، وصار ملمّاً بالعزف عليها، وهذا كله لم يكن ضمن مشروعٍ منظّم، فأبو الريم يعيش في الفوضى، ويمقت التنظيم. وكان يكفيه، على صعيد البلدة، أن يلتقي بمجموعةٍ من عشّاق النغم .. يسهرون في بيت أحدهم، ويعزفون ويغنّون، ويردّدون أغاني العرس التي وضع المرحوم سليم إلياس نهجها وتسلسلها بحسب المقامات. ولكنه، للحق، يعشق اللعب أكثر حتى من الموسيقا، يمكن له أن يستغرق في لعب الشدّة، مثلاً، ست ساعات، ولكنه لا يجيد الجلوس كغيره من اللاعبين، تراه ينهض، بين لحظةٍ وأخرى، ويُمسك الورقة مهدّداً بها خصمه (العب ولاك مرفوس)، حتى إننا لعبنا معه ذات مرّة، في المقهى. وبعد مغادرته عثرنا على كومة نقودٍ كانت قد سقطت من جيبه من كثرة تحرّكه، فلما ناديناه وأريناها له ضرب على جبينه، وقال: هادا الراتب كله، لو ضاع كان انخرب بيتي.
وأحلى ما فيه أنه يلعب بلا ضغينة. أصلاً أبو الريم لا يعرف الغضب والحقد والضغينة والمخاصمة. ومَن ينظر إلى قائمة أصدقائه لا بد أن يندهش، فمع أنه في الأساس صديق شقيقي، مالك، الذي يكبرني بعشر سنوات، فقد أصبح صديقي الحميم. ومرّت علينا فترة كنا نذهب في أيام العطل، متسلّحين ببواريد الصيد، إلى حربنوش، نشرب القهوة المرّة في مضافة محمد العمر، ونتابع طريقنا مشياً على الأقدام إلى قرية عرشين "الدرزية". وفي الطريق، نحاول صيد الحجل، وقد أعلمني أبو الريم أن صيد الحجل يحتاج إطلاق النار عليه وهو طائر، فلمّا ماريتُه بمقدرته على إصابة الحجلة وهي طائرة، قال لي: "ولاك مرفوس، امسك هالحجر واقذفها إلى الأمام". .. قذفتها، فأطلق النار عليها وأصابها بالفعل..
لم يكن أبو الريم كريماً وحسب، بل إنه شجرة مثمرة على طريقٍ عام. علم عزف العود للعشرات، بل للمئات من معارفه. أما حكاية لقبه الدارج أبو الريم فتعود إلى أكثر من نصف قرن، حينما طلب منه رجلٌ مسيحيٌّ من قرية تابعة لجسر الشغور، تعليم ابنتيه، ريما وأفدوكس، العزف على الأكورديون، وكان أعزب، وكغيره من شباب بلدتنا، مكبوتاً. يومها عاد من هناك وسارع إلى لقاء أصدقائه، وحدّثهم عن جمال الفتاتين، وروعتهما، ولباسهما، مستخدماً صرخة التعجب الخاصة به "يا ياب"، وطلب منهم أن يكفّوا عن مناداته بلقب أبو أحمد، وينادوه بلقبه الجديد: أبو الريم.