"أبناء غورباتشوف".. رواية قلق روسية
عنوان رواية الروسي ألكسندر أندروشكين (1960) "أبناء غورباتشوف"، التي أصدرها في 2016 (ترجمة باسم الزعبي، الآن ناشرون وموزّعون، عمّان، 2022)، مجازيٌّ وممتلئٌ بالإيحاء، بل لا يُخبرنا الروائي عن أي صلةٍ بين أبطاله، المركزيين الثلاثة (مثلا)، بآخر رؤساء الاتحاد السوفييتي، والذي توفي أول من أمس في موسكو. بل لا تُصادف، أنت القارئ، حضورَ غورباتشوف (أو اسمه) في صفحات العمل التي تزيد عن الثلاثمائة قليلا سوى مرّات أقلّ من عدد أصابع اليد الواحدة، أهمها عندما يعرّفنا السارد، وهو راوٍ عليم، بأن إحدى الشخصيات الرئيسية، الملا مورتالي، المسلم القادم من طشقند إلى موسكو، والحاصل على الجنسية الأميركية، بعد هجرته بعض الوقت إلى الولايات المتحدة، رتّب اجتماعا لزعماء دينيين (رؤساء كنائس) من أميركا مع رئيس البلاد غورباتشوف في الكرملين ربيع 1991. نقرأ "بدا غورباتشوف تعِبا، وعلى وشك الانهيار تقريبا، لكن هذا الأمر عزّز التعاطف معه. لم يكن يصدّق أن مثل هذا السياسي الكبير يمكن أن يواجِه انهيارا كبيرا" (35). ولك أن تخمّن أن هذا اللقاء المتخيّل جرى قبل أشهر من انتهاء الاتحاد السوفييتي وتنحّي غورباتشوف الذي كان صوتُه الواثق، في هذا الموضع في الرواية، يميّزه. "تحدّث عن النجاحات الكبيرة لإصلاحاته، وكذلك عن الصعوبات الكبيرة، وأنه قد استقبلهم من أجل ذلك، حتى ينقل الزعماء الدينيون الأميركيون هذه الرسالة المختلطة إلى طوائفهم، وحتى ينتُج عن ذلك دعم أميركي" (37).
وفي موضع آخر، يحكي مورتالي عن نفسِه، عن حيرته، وهو الذي عمل في الصحافة أولا، وبعد عام من رحيل الاتحاد السوفييتي، دخل المدرسة الإسلامية موظّفا. وفي تلك الأثناء، "بدأت البيريسترويكا، وبقي بعض الوقت غير قادرٍ على أن يفهم تماما ما يحدُث، إذ لم يكن من أولئك الذين في إمكانهم على الفور التقاط التغيّرات في الوضع. لذلك، ظلّ، طوال سنوات حكم غورباتشوف كلها، ينتقل من هذا الاتجاه إلى ذاك، لكنه، في المحصلة، بقي كما لو لم يتحرّك من مكانه" (161). نعلم أيضا أن مورتالي، في تلك السنوات نفسها من فترة حكم غورباتشوف، "بدأ يغوص أعمق في الدين، قرأ القرآن والحديث، دفعته المشاكل في الأسرة إلى الإسلام" (161).
التشوّش الحادث في مدارك مورتالي يوازيه ما يماثله لدى القسّ مارتن بونديس الذي يقول إن حياته ملكُ المسيح. هاجر هو الآخر، هو المولود في لاتفيا ودرس في موسكو، إلى الولايات المتحدة في 1977. ويرى في زمن الرواية، زمن رحيل الاتحاد السوفييتي، أن على أميركا أن تعيد توطين المسيح في روسيا. أنشأ منظمةً تبشيريةً سمّاها "السفراء المسيحيون"، ونالت دعما ماليا أميركيا بسرعة. لا يتبدّى نجاحٌ أحرزه القسّ في تطلّعه. كما أن الأب فاسيلي، وهو كاهنٌ روسيٌّ أرثوذكسي، يدرس في جامعة "المسيحية المفتوحة"، يناهض أي توجّهٍ للولايات المتحدة إلى زرع تشكيلاتٍ في روسيا، فهو يراها معاديةً لبلده، وللروح القومية الروسية الأرثوذكسية. تأخذ الرواية الرجل إلى الهند. يجول القارئ معه في كالكوتا، في أحيائها الفقيرة خصوصا. وفي الأثناء، يخطُر في باله إن ما رآه "هنا يشبه المعاناة التي عرفها من أوصاف الغولاغ (معسكر الاعتقال في العهد الستاليني)، فالهند كلها غولاغ واحد ضخم" (210). ويعكس منظور الرؤية من الأب المتحمّس لأرثوذكسيته حنقا على ماضٍ سوفييتيٍّ له آثارُه الباقية في البلاد. يقول: "إن ما يدمّر في هذا البلد ذي المليار نسمة، وفي سنواتٍ معدودة، يعادل ما دمّره الغولاغ السوفييتي في جميع عقوده" (210).
ذهب الأب فاسيلي إلى الهند، عساه يعثر على شحنةٍ روحيةٍ تساعده، في غضون القلق والتشوش اللذين يغالبهما في لحظةٍ روسيةٍ خاصّة، ويغالبهما مورتالي الذي جاء من الإلحاد إلى الإسلام، وينشط لتأسيس مركز إسلامي فيها، فيما يتواصل مع زعاماتٍ دينيةٍ في الولايات المتحدة التي هاجر إليها طوْرا، وتزوّج وانفصل عن زوجته. وثمّة الحنق في القسّ بونديس على حالٍ مشوّشٍ عموما، وكذا في شخصياتٍ أخرى في الرواية (نيكولايف...). غير أن السرد لم يتوفر على ما يشدّ إليه قارئا انجذب إلى الرواية بدافع اسمها (التجاري؟)، سيما وأن تزيّدا ظاهرا فيها لحضور تصادم الأفكار، وغالبا المتصلة بالدين، ما قد يجيز القول (أو الترجيح؟) إن مُراد ألكسندر أندروشكين من روايته هو أن أبناء غورباتشوف هم أبناء التيه الأيديولوجي والقومي والفكري في زمنِ حكم هذا الزعيم، وبعد أن انهار الاتحاد السوفييتي .. هل هذا صحيح؟ لا أعرف.