أبعد من امتحانات محامين في المغرب
مثل كرة الثلج، ما زالت الضجّة التي أثيرت في المغرب بشأن مدى نزاهة نتائج امتحانات الالتحاق بمهنة المحاماة تكبر كل يوم، وتحولت إلى حرب تصريحاتٍ ما بين وزير العدل عبد اللطيف وهبي وجمعية هيئات المحامين التي وقفت إلى صفّه، من جهة، والمُرسّبين في هذه الامتحانات، مدعومين بهيئات مدنية وسياسية ونقابية وبوسائل الإعلام ورواد مواقع التواصل الاجتماعي، من جهة أخرى. وتطوّر الجدل الذي تغذيه تصريحات الوزير المستفزّة وردود فعله الانفعالية، خصوصا في الدفاع عن نجله الذي نجح في هذه الامتحانات، من المطالبة بالتحقيق في ادّعاءات ومزاعم وجود فساد ومحسوبية شابت العملية، إلى المطالبة برأس الوزير المثير للجدل، وإقالته من الوزارة وإعفائه من الأمانة العامة لحزبه السياسي الذي خرج من رحم السلطة.
تتعلق القضية بمباراة (منافسة) امتحانات مزاولة مهنة المحاماة التي كانت تجري سنويا في المغرب في صمت، فما الذي جعلها هذه السنة تثير حولها كل هذه الضجّة التي حولتها إلى قضية رأي عام تشغل الناس في المغرب وتملأ حياتهم؟ ما يميّز مباراة هذه السنة أنها الأخيرة من نوعها التي تتيح للراغبين الولوج إلى هذه المهنة، عبر امتحان كتابي وشفهي، قبل الالتحاق بمكتب محامٍ مهني للتدريب سنتين، بما أن القانون قد يتغيّر السنة المقبلة مع فتح أول معهد في المغرب لتكوين (تأهيل) المحامين، سيكون الدخول إليه عبر منافسة، ولكن "الكوتا" ستكون محددة. لذلك سارع كثيرون من المترشّحات والمترشّحين من خرّيجي كليات القانون، ومن مهن قريبة من قطاع القضاء للترشّح لامتحانات هذه السنة، حتى فاق عدد المترشّحين سبعين ألف مترشّحة ومترشّح، يتبارون على نحو ثمانمائة فرصة لمزاولة مهنة المحاماة، لكن وزير العدل سيتدخّل ليرفع من عدد الناجحين في الامتحان الكتابي إلى أكثر من ألفي ناجحة وناجح. وعندما نشرت وزارته نتائج هذه الامتحانات سيكتشف الرأي العام تكرار أسماء نسب عائلات بعينها معروفة ضمن هذه القائمة التي تضمّنت أيضا اسم نجل الوزير واسم ابنة رئيس جمعية هيئات المحامين وأقرباء لهما، وأسماء نسب تعود إلى نقباء ومحامين وقضاة ومسؤولين في قطاع العدالة والأمن وبرلمانيين، فثارت ثائرة المرسّبين، وانتقلت الاحتجاجات من مواقع التواصل الاجتماعي إلى الشارع، ما أجبر الحكومة والوزير وجمعية هيئات المحامين على الخروج ببياناتٍ وتصريحاتٍ لتهدئة النفوس، لكنها في كل مرة تزيد في الطِّينِ بَلَّةً فيزداد الوضع سُوءاً والأَمْر تَعْقيداً.
كشفت هذه الفضيحة عمّا هو أسوأ داخل الدولة والمجتمع المغربيين، كشفت عن شبهات الفساد وانعدام الشفافية والنزاهة والمحسوبية والزبونية
ورغم مرور أسبوعين على هذه الضجّة/ الفضيحة، ما زال الموضوع يراوح مكانه، فالوزير المعني بالأمر وجمعية هيئات المحامين يتمسكون بنزاهة الامتحان، وبالتالي مصداقية نتائجه. وفي مواجهة مطالب فتح تحقيق في الموضوع، تحولوا إلى الهجوم على منتقديهم في محاولة للهروب إلى الأمام، خوفا من التحقيق ونتائجه التي قد تكشف عما هو أعظم.
جاءت هذه الضجّة أسبوعين فقط بعد الأداء الرائع للمنتخب المغربي في مونديال قطر، لتشوّش على الصورة الإيجابية للمغرب التي جذبت انتباه الجماهير في جميع أنحاء العالم، وتكشف عن نقيض كل القيم الجميلة التي عكسها اللاعبون المغاربة. ومقابل الاعتماد على الكفاءة، والأداء القتالي، والتضحية، والروح الوطنية العالية، والأخلاق الرياضية الراقية، كشفت هذه الفضيحة عمّا هو أسوأ داخل الدولة والمجتمع المغربيين، كشفت عن شبهات الفساد وانعدام الشفافية والنزاهة والمحسوبية والزبونية وعدم تكافؤ الفرص وغياب المحاسبة والإفلات من العقاب، وكلها آفاتٌ بنيويةٌ تنخر المجتمع المغربي منذ عدة عقود، لكنها الآن أصبحت تلاحق مهنا نبيلة، كان يجب تحصينها من كل الانزلاقات التي قد تمسّ بجوهر رسالتها التي تضع أصحابها في مقدمة المدافعين عن دولة الحق والقانون. ومن جهة أخرى، كشفت هذه الفضيحة عن عجز كل الآليات الدستورية والقانونية التي وضعها المغرب لمكافحة الفساد واحترام تكافؤ الفرص عن القيام بالدور الذي يخوّله إليه القانون، وفشل كل سياسات تخليق الحياة السياسة والحياة العامة وترسيخ قيم الشفافية والنزاهة وتكافؤ الفرص التي ترفعها الحكومة شعاراتٍ لا أثر لها على أرض الواقع.
شجرة تخفي غابة فشل الحكومة التي قدّمت نفسها بأنّها حكومة كفاءات
ما زالت تداعيات هذه القضية وما أثارته من ضجة تتفاعل، وهي ليست سوى الشجرة التي تخفي غابة فشل الحكومة التي قدّمت نفسها بأنها حكومة كفاءات، وقدّمت للمغاربة وعوداً كثيرة سرعان ما كذّبها الواقع، بفعل ارتفاع نسبة التضخّم وانعكاسه على الأسعار، وتعاظم صفوف البطالة، خصوصا في صفوف الشباب الخرّيجين، واستشراء الفساد تحت كل ألوانه، المالي والسياسي والأخلاقي، الذي طاولت شبهاته وزراء، بمن فيهم رئيس الحكومة نفسه، عزيز أخنوش، الذي تلاحقه شبهة التداخل بين مصالحه بوصفه رجل أعمال وسلطته رئيسا للجهاز التنفيذي.
وبالعودة إلى الظروف التي جرت فيها الانتخابات التي أعطت أغلبية الحكومة الحالية المشكّلة من أحزاب مقرّبة من السلطة، ليست لها قواعد شعبية حقيقية، يطرح السؤال من جديد عن مدى حاجة المغرب الذي رفع "أسود الأطلس" رايته عاليا في المونديال، بمجهود فردي للاعبين، جاء أغلبهم من أوساط فقيرة ومن مناطق مهمّشة أو يتحدّرون من أسر مهاجرة، إلى مؤسّسات حقيقية ومسؤولين وسياسيين يحظون بالمصداقية، قادرين على تمثيل الإرادة الحقيقية للشعب المغربي، وعلى حمايته من الفساد والمفسدين الذين يسعون في الأرض فسادا، فهذه الضجة بمثابة ناقوس خطر لمن يهمهم الأمر بأنّ "ثمّة شيئاً ما عفِناً في مملكة المغرب".