آفاق التحوّل في العلاقات التركية الخليجية
عام 2014، كانت الدوحة أول عاصمة عربية يزورها رجب طيب أردوغان، بعد توليه منصب الرئاسة في تركيا. لم يكن هذا الاختيار عادياً، إذ عكست الزيارة وقتها الشراكة المتصاعدة بين أنقرة والدوحة، والتحالف الذي شكّلاه في المنطقة في أعقاب تحولات 2011. كان من بين الاتفاقات التي وقعها الجانبان بعد إنشاء اللجنة الاستراتيجية المشتركة بينهما في 2014 اتفاقية للتعاون الدفاعي، أجازت لأنقرة نشر قوات عسكرية في قطر. تُرجمت هذه الاتفاقية على أرض الواقع في 2017، عندما وافق البرلمان التركي على نشر قوات في القاعدة العسكرية التركية في الدوحة، في رسالة دعم لقطر بعد المقاطعة التي فرضها التحالف الرباعي، بالسعودية والإمارات والبحرين ومصر، عليها. وشكّلت الأزمة الخليجية نقطة تحوّل جديدة في التحالف القطري التركي، ونقلته إلى مستوى أكبر من التعاون الذي تطوّر فيما بعد إلى دعم قطر تركيا في أزمة الليرة في 2018، باستثمارات مباشرة بلغت 15 مليار دولار، فضلاً عن بروز الدوحة صوتاً عربياً معارضاً للبيانات العربية ضد تركيا في جامعة الدول العربية، بالإضافة إلى التنسيق بين البلدين في القضايا الإقليمية، كليبيا وسورية.
كانت الشراكة التركية القطرية من بين الأسباب الرئيسية العميقة للأزمة الخليجية، حيث أثارت قلق الرياض وأبوظبي من الدور التركي المتنامي في المنطقة عموماً، والخليج على وجه التحديد. وقد ساعد دعم تركيا قطر على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية في أزمة 2017 في تعميق الهوّة بشكل أكبر مع الإمارات والسعودية. وبالنّظر إلى التأثير الأميركي الكبير في ضبط الإيقاع الخليجي الداخلي، وإيقاع العلاقات الخليجية مع الخارج، فإن وجود إدارة ترامب في تلك الفترة لم يسهم في تأجيج الأزمة بين قطر وجيرانها فحسب، بل عمل أيضاً على تغذية الخلافات بين تركيا وخصومها الخليجيين، للحدّ من تنامي الدور التركي في الخليج. لذا، لم يكن من المُمكن الحديث عن إمكانية إنهاء الأزمة الخليجية، أو إحداث انعطافة في العلاقات بين تركيا والسعودية والإمارات، من دون تحقيق شرط رئيسي، وهو تغيّر في الحالة الأميركية، وهو ما حصل مع رحيل إدارة ترامب ومجيء إدارة بايدن التي كانت عاملاً رئيسياً من عوامل عدّة، أدّت إلى تغيير في الأولويات الإقليمية لدى تركيا ودول الخليج.
سعى أردوغان إلى تأكيد مضي تركيا في بناء علاقات جيدة مع جميع دول الخليج، ليس على حساب الشراكة الوثيقة مع قطر
على الرغم من أن وصول رئيس ديمقراطي إلى السلطة سحب الغطاء الأميركي الذي منحه ترامب للرياض وأبوظبي في سياساتهما الخليجية والإقليمية، إلّا أن التحوّل الذي جرى بعد ذلك على صعيدي الأزمة الخليجية والعلاقات التركية الخليجية لم يكن نتيجة مباشرة لرغبة واشنطن في إنهاء الصراعات بين حلفائها وتقليل انخراطها في قضايا المنطقة، بقدر ما شكّل دافعاً إضافياً لتركيا وخصومها الخليجيين إلى البحث عن سبلٍ لإنهاء مرحلة الخصومة والدخول في مرحلة جديدة من التعاون للتكيّف مع الوضع الإقليمي الجديد في مجال الأمن والاقتصاد والسياسية. بالنّظر إلى أن أحد العوامل التي ساهمت في تشكيل التحالف التركي القطري تمثّلت في سياسات المحاور التي تشكّلت في الإقليم بعد 2011، فإن تفكّك هذه السياسات وبروز ديناميكية جديدة في العلاقات الإقليمية، يطرحان تساؤلاتٍ عن الكيفية التي ستُدير بها تركيا علاقاتها الجديدة مع منطقة الخليج، وما إذا كانت الشراكة الحديثة مع أبوظبي، وربما مع الرياض لاحقاً، ستؤثر في الشراكة التركية القطرية.
قبيل زيارته الدوحة، أخيراً، سعى أردوغان لتأكيد مضيّ تركيا في بناء علاقات جيدة مع جميع دول الخليج من دون استثناء، وأن هذا التوجّه لن يكون على حساب الشراكة الوثيقة مع قطر. في الواقع، لا يوجد في الوقت الراهن ما يدعو إلى طرح تساؤلاتٍ بشأن مستقبل العلاقات التركية القطرية أو التشكيك في متانتها. مع ذلك، تفرض العلاقات الجديدة التي تسعى أنقرة لبنائها مع الرياض وأبوظبي عليها مقاربة أوسع لدورها في الخليج والمنطقة، لا يقتصر خليجياً على قطر، كما كان الوضع خلال السنوات الماضية، بل يشمل الأطراف الخليجية الأخرى، وهذا سيُمكّن السعودية والإمارات من ممارسة بعض التأثير بالسياسات التركية في المنطقة مستقبلاً، وقد يُنظر إلى ذلك على أنّه منافسة للتأثير القطري في أنقرة. في المقابل، سيفرض هذا التحوّل على الأطراف التي ترغب في إصلاح علاقاتها مع تركيا مقاربةً تأخذ بالاعتبار الدور التركي في الخليج والعلاقات التركية القطرية. لم تكن الأزمة الخليجية في 2017 الأولى، وقمّة العلا لم تُعالج تماماً أسبابها العميقة. لكنّ فرص الحفاظ على الاستقرار الخليجي الراهن ستزداد إذا ما نجحت تركيا ودول الخليج في إقامة علاقات جيّدة.
تبدو المنافع الاقتصادية لتركيا ودول الخليج المُحرّك الرئيسي الآن لعملية إصلاح العلاقات
مع ذلك، لا تزال قطر حليفاً خليجياً وثيقاً وهاماً بالنسبة إلى تركيا لاعتبارات عديدة، أهمها أن التحالف الذي نشأ بينهما لم يرتكز فحسب على تقاطع مصالحهما الإقليمية، بل كذلك على مقاربتهما الأيديولوجية المتشابهة للحالة الإقليمية بعد الربيع العربي من حيث دعم صعود الإسلام السياسي. بينما العلاقات الجديدة التي تنشأ بين أنقرة وأبوظبي والرياض حالياً تفرضها بالدرجة الأولى الحاجة إلى التكيّف مع التحولات الإقليمية والعالمية، والحدّ من أضرارها المحتملة على هذه الدول، فضلاً عن أن تضارب المصالح بين تركيا والسعودية والإمارات في معظم القضايا الإقليمية لا يزال موجوداً، وإن كانت تسعى إلى إدارته في المرحلة الجديدة. كذلك إن وجود تركيا العسكري في قطر يُحقق لها مزايا مهمة في تعزيز حضورها الخليجي، واستعراض قدراتها العسكرية، إلى جانب صناعاتها الدفاعية التي تجذب اهتمام كثيرين في الإقليم، بمن فيهم الإمارات التي تبحث إمكانية التعاون الدفاعي مع تركيا. يُضاف إلى ذلك السمة التي تُميز سياسات أردوغان الخارجية في الحفاظ على الشركاء، مهما تبدلت الظروف.
لدى قطر استثمارات اقتصادية كبيرة في تركيا، وصلت إلى أكثر من 33 مليار دولار العام الماضي، ومن المتوقع أن تزداد بعد الاتفاقات التي وُقّعت بين البلدين في أثناء زيارة أردوغان الدوحة الأسبوع الماضي. في المقابل، تعتزم الإمارات استثمار نحو عشرة مليارات دولار في تركيا بعد إصلاح العلاقات بين البلدين، فضلاً عن أنها تُعد أكبر شريك تجاري لتركيا في منطقة الخليج. وتتطلع أنقرة إلى إعادة جلب الاستثمارات السعودية إليها، بعد إعادة إصلاح العلاقات مع الرياض. لذا، تولي تركيا أهميةً للمسار الجديد مع دول الخليج كافة، لكونه لن يساعدها فحسب في جلب أكبر قدر من الاستثمارات الخليجية، بل يُخلصها كذلك من القيود التي فرضها التوتر في العلاقات مع الإمارات والسعودية خلال الفترة الماضية على حركة التجارة بينها وبين منطقة والخليج والدول العربية الأخرى. لذلك، تبدو المنافع الاقتصادية لتركيا ودول الخليج المُحرّك الرئيسي الآن لعملية إصلاح العلاقات.
عملية إعادة ترميم الثقة بين خصوم الأمس قد تستغرق وقتاً طويلاً
قد يكون من المُبكّر طرح هذه التصورات المستقبلية للعلاقات التركية الخليجية، إذ لا تزال المنطقة في بدايات مرحلة التحوّل من الفوضى في العلاقات الإقليمية الإقليمية والعلاقات التركية الخليجية إلى مرحلة إعادة الاستقرار لهذه العلاقات، وبناء أرضية مناسبة لتجاوز المرحلة الماضية. يبدو التعاون في المجالين، الاقتصادي والدفاعي، الأرضية المتاحة حالياً لاستعادة العلاقات بين تركيا والإمارات والسعودية، لكنّهما غير كافيين لتمتين هذه الأرضية، من دون التوصل إلى مقاربات مشتركة للقضايا الإقليمية، كليبيا وسورية. كذلك فإن عملية إعادة ترميم الثقة بين خصوم الأمس قد تستغرق وقتاً طويلاً، بالنظر إلى الأضرار الحادّة التي خلّفتها المرحلة الماضية على العلاقات التركية الخليجية. قبل اكتمال معالم الوضع الإقليمي الجديد، من المستبعد أن نشهد تحوّلات كبرى في الصراعات الإقليمية التي شكّلت المُحرّك الأساسي للخلافات التركية الخليجية في العقد الماضي. وهذه العملية لن تتبلور بشكل كامل قبل الانتخابات الحاسمة في تركيا بعد نحو عام ونصف عام.