"من طالبان إلى طالبان"... بحثٌ عن البشر

30 ابريل 2022
+ الخط -

في كتابه "من طالبان إلى طالبان .. مشاهدات عامل إغاثة في أفغانستان" (دار المرايا للثقافة والفنون، القاهرة، 2022)، يقدّم الكاتب خالد منصور استعراضاً نادراً في تعمّقه وزاوية تناوله تاريخ أفغانستان الحديث، وذلك انطلاقاً من يوميات سجّلها خلال عمله في بعثة الأمم المتحدة إلى هناك بين العامين 2000 و2002، التي شهدت الغزو الأميركي، وكذلك زيارات متعدّدة عبر السنوات التالية إلى أفغانستان ودول جوارها، مثل إيران وباكستان وطاجكستان، والتي خصّص لكل منها فصلا في الكتاب.

التقيت الصديق خالد منصور عدة مرّات، وكنت أُدهش دائماً من خبراته الموسوعية التي ينتقل بها حديثه بين عصور ومجالات متنوعة بطلاقةٍ تجمع المعلوماتية والانحياز الإنساني، وهي الروح ذاتها التي انتقلت إلى كتاباته، فهو يقدّم رؤية أوسع من الشهادة المجرّدة على ما رآه في أفغانستان، بل يقارن السياقات التاريخية والسياسية والاقتصادية بين دول عدّة في منطقتنا شملتها تجاربه، فلا فارق كبيراً بين حكوماتٍ تحوّلت إلى تجمّع أصحاب المصالح المحميين بالسلاح، أو بين تذمّر رجل أعمال مصري من النقابات العمالية ونظيره الباكستاني، أو بين توظيف أنظمة مصر والسعودية الإسلام السياسي وتجربة باكستان في المجال نفسه. وقد استعان الكاتب بدمج خبراته المتعدّدة، فقد حصل على درجاتٍ علمية في الهندسة والآثار والاجتماع والعلاقات الدولية.

بدأ منصور سيرته المهنية الصحافية في مصر وجنوب أفريقيا والولايات المتحدة، ثم انضم إلى الأمم المتحدة عام 1999، وخدم في أشد المواقع التهابا، مثل أفغانستان ولبنان والسودان والعراق، ونجا مراراً من الموت، كما في تأخره ربع ساعة فقط عن دخول مقر الأمم المتحدة في بغداد الذي فجّره تنظيم القاعدة.

يبتعد الكتاب عن الإجابات السهلة والمعلبة، كما في توزيعه مسؤولية المأساة الملهاة الأفغانية على الأطراف كافة، فالأنظمة الأفغانية المتعاقبة منذ الملكية الاستبدادية، مرورا بالنظام الشيوعي الذي حاول فرض إصلاحاتٍ فوقية بالقوة الجبرية، ثم الجماعات المسلحة القبائلية منها والجهادية، كلهم شركاء في ما وصلت إليه بلادهم، كما تحمل الوزر معهم أطرافٌ خارجيةٌ متنوعة تشمل الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة ودول الجوار ودولا عربية.

يشدّد منصور على أهمية العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في صعود الظواهر الأيديولوجية أو هبوطها، في مقدمتها الإسلام السياسي والإرهاب، ويسرُد، عبر مشاهداته في دول عدة، كيف كان الفقر المدقع، وفساد الحكومات القمعية وفشلها، والدور الخارجي، عوامل أكثر أهمية بكثير من النصوص أو الفتاوى.

يسعى الكتاب إلى فتح نقاش عام عن دور المؤسسات الإغاثية العالمية، والتي يحرص الكاتب على تأكيد أهميتها البالغة، لكنه يوجّه انتقادات عدة لها، مثل انعزال بعض مخطّطيها وموظفيها بالمفهومين، المادي والمعنوي، عن المجتمعات التي يعملون فيها، ونظرتهم إلى مواطنيها على أنهم مجرّد متلقين، اليد السفلى، وبالتالي لا يُشاركون في تحديد احتياجاتهم، وكيفية تلبيتها.

كما أن المساعدات الإنسانية تتحوّل، أحيانا، إلى عامل مساعد في استمرار الصراع، لأنها تزوّد كل الأطراف المتحاربة بالاحتياجات الأساسية، سامحة لهم بتكريس مواردهم للقتال، وكذلك لا تقدّم المساعدات الإنسانية غالبا عوامل مستدامة لإيجاد تنمية محلية، بل إن ثقافة العمل بها قد تتحوّل إلى استهداف استمرار عمل المؤسسة، حتى لو تغيرت الظروف أو الاحتياجات، كمطالبة بعض اللاجئين الأفغان بوسائل انتقال ومساعدات زراعية، ليعودوا إلى قراهم، وليس مساعداتٍ غذائية تبقيهم في المعسكرات.

يرفض الكاتب ادّعاء الطوباويين والحالمين بأن المساعدات الإنسانية غير مسيّسة إطلاقا، بالضبط كما يرفض ادّعاء أطراف قومية ويسارية وإسلامية بأنها مجرّد ترس في مؤامرة إمبريالية متخيّلة، بل تقع الحقيقة في مساحة أكثر تركيبا وتعقيدا.

ينتهي الكتاب بإجمال منصور ما تعلمه عبر ثلاثين عاماً من الخبرات، وهو أولوية التعاطف والإحساس بمأساة الآخرين، وهو شرطٌ لا يغني عن النضال السياسي والاجتماعي والفكري، لكن هذه النضالات ستفتقد البوصلة إذا فقدنا ذلك الشعور.

"كلهم بشر. مثلنا. وكل معاناتهم بسبب بشر، مثل بعضنا. وكلنا على سفر، ولكننا ننسى ذلك في معظم الأحيان، لنكدس متاعاً أكثر وسلطاناً أكبر على حساب رفقاء الطريق، رغم أننا نترك كل متاعنا مع القافلة عندما نصل إلى محطّتنا الأخيرة".