"عيش مرحرح" .. أسئلة السيادة الغذائية المصرية
يبدأ كتاب "عيش مرحرح... الاقتصاد السياسي للسيادة على الغذاء في مصر" (دار صفصافة، القاهرة، 2021)، في صفحته الأولى، بشكر أجيال متعاقبة من الباحثين المصريين والأجانب الذين عملوا عن قرب على "المسألة الزراعة" في مصر". بهذه البداية، يحدد الباحثان، محمد رمضان وصقر النور، أحد أبرز سمات الكتاب في مختلف فصوله، وهي الوعي التام بمكانه كحلقة ضمن سلسلة واسعة محلية وعالمية من محاولات مقاومة العملاق النيوليبرالي. .. وعلى الرغم من أن الدستور المصري ينص في مادته التاسعة والسبعين على أن الدولة "تكفل السيادة الغذائية بشكل مستدام"، إلا أن هذا المفهوم يظل غير مألوفٍ على الآذان المصرية والعربية، بعد عقود من عموم مفاهيم "الأمن الغذائي" و"الاكتفاء الذاتي".
يعتمد الكتاب تعريف السيادة الغذائية المعتمد لدى حركة فيا كمبسينا (نهج المزارعين) العالمية، والذي تم إعلانه في منتدى نيليني عام 2007، "هي حق الشعوب في غذاء صحّي وملائم ثقافيا، ينتج من خلال أساليب صحيحة ومستدامة بيئيا، وحقها في تحديد نظمها الغذائية والزراعية..".
وفقا لتعداد 2017، يعيش نحو 58% من المصريين في الريف، ويعمل في الزراعة نحو 25% من القوة العاملة في البلاد. وعلى الرغم من ذلك، المزارعون المصريون محرومون من المشاركة الجادّة في القرارات المؤثرة عليهم.
يطرح الكتاب أسئلة: ما هو واقع السيادة الغذائية في مصر؟ ما هي تحدّياتها؟ هل تقاوم ممارسات الفلاحين الحالية تجريدهم من هذه السيادة؟ وللإجابة، يدمج الكتاب بين كم ضخم من البيانات والجداول الإحصائية العالمية والمحلية وبين بحث ميداني معمق في قريتين شمال الصعيد، إبوان في المنيا وهوارة في الفيوم، حيث المحصولان النقديان الرئيسيان هما البطاطس والبنجر (الشمندر).
شمل البحث الميداني الذي استمر تسعة أشهر استمارات استبيانات، وكذلك شمل معايشة وملاحظات من الباحثين. ولعل هذا ما أدّى إلى توسّع الكتاب لجوانب اجتماعية وأنثروبولوجية، حتى أنه يوثّق أغاني الريفيات، كما يقدّم ملاحظات بالغة الذكاء عن تأثير نوع المحصول المزروع على "الأدوار الجندرية" ونفاذية النساء إلى أموال الأسرة.
يفنّد الكتاب فكرة المصلحة المحققة للفلاحين من "الزراعة التعاقدية"، وكونها ترفع مكانهم في "سلسلة القيمة"، حيث تغيب تماما موازين القوى التفاوضية بين المزارعين والمصانع التي تمدهم بالبذور وتتعهد بشراء محاصيلهم بعدها.
يحسب الكتاب بدقة بالغة كلفة زراعة طن البطاطس أو البنجر، ليوثق تراجع ربحية نشاط الزراعة في المجمل، حتى أن الدخل الشهري للفلاح المستأجر من الزراعة يصل إلى 1700 جنيه (166 دولارا)، أي أقل من الحد الأدنى للأجور المصري البالغ ألفي جنيه. ولذلك واقعيا ينتشر نمط الزراعة بدوام جزئي، بجانب العمل بوظائف أخرى، إلا أن الأرض تبقى أهميتها رأسمالا اجتماعيا.
يرصد الكتاب أيضا أثر التحولات التاريخية في نمط ملكية الأرض ودور الإدارة الحكومية. على سبيل المثال، يوثق أن الانعكاس الرئيسي لـ"الإصلاح الزراعي" في عهد جمال عبد الناصر على المزارعين لا يتركّز على توزيع الأرض، بل على تثبيت القيمة الإيجارية. ويرصد الكتاب أيضاً تراكما تاريخيا لممارسات "نزع القيمة" من الريف لصالح المدن المصرية، فضلا عن نزعها من مصر في المجمل لصالح دول الشمال، وذلك منذ تصدير محصول القطن في عهد محمد علي، وحتى الوضع الحالي لشركة بيبسي العالمية. كما يوثق أنماطا عديدة من "المقاومة" الفلاحية، مثل الاحتفاظ بهامش لزراعة الخضر لاستهلاك الأسرة، وكذلك الحفاظ على عادات صناعة الخبز التقليدي، مثل "الخبز المرحرح" أو "البتاو" الذي يظل صالحا للأكل أشهر.
حين يعيد الفلاحون استخدام البذور بالطريقة التي يسمّونها "كسر تقاوي"، فهم في الواقع يخالفون اتفاقات دولية، آخرها اتفاق الاتحاد الدولي لحماية الأصناف النباتية "يوبوف" في 2017، ومن الممكن أن تقاضيهم الشركات بموجب موافقة برلمانية لم يلتفت إليها الرأي العام المصري في ذلك الوقت.
في المجمل، يعد الكتاب إضافة مهمة ونادرة في فئته، وعلى الرغم من أن تركيزه الأكبر يصبّ على توصيف المشكلات وليس حلولها، إلا أن خاتمته التي كتبها الأكاديمي الجزائري حمزة حموشان، بوصفه منسق مشروع السيادة الغذائية في شمال أفريقيا، تشير إلى مناقشات وحلول تتّسع من التقني إلى السياسي، ومن المحلي إلى العالمي.