"طائر التمّ" .. رحلة الفردي والجمعي
لسنا هنا أمام نصٍّ في الفلسفة لشخصٍ طالما كتب فيها سنين خلت، وحلّق في الميتافيزيقا والمعرفة، من أفلاطون وأرسطو إلى الفارابي وابن سينا وابن باجة وابن رشد، ومن ميكافيلي وديكارت إلى كانط وهيغل وغيرهم. إننا أمام نص روائي أدبي اختاره فهمي جدعان عن قصد لكتابة سيرته الشخصية "طائر التمّ.. حكاياتُ جنى الخطا والأيام" (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2021). وتفضيل الأسلوب السردي على الأسلوب الفلسفي نابع من قناعة جدعان بأن السرد أبلغ في الكشف عن سريرة الكينونة الإنسانية، وعن أغوار الوجود وحيله وتشخصاته في الحياة الفردية والجمعية. ومع ذلك، لم يتخلّ رجل الفلسفة عنها في مذكراته، فـ "الحكمة الفلسفية يمكن أن تسبغ على الخلق الأدبي ما لا يملك السرد العادي الفج أن يدركه وينقله".
"طائر التم"، هو العنوان الذي اختاره فهمي جدعان لكتابه، كتمثيل حقيقي لتجربته الشخصية التي هي جزء من التجربة الفلسطينية الجمعية، كناية عن طائر التمّ الذي يهاجر إلى مسافات طويلة ومضنية، فتتغير التضاريس الأرضية بتغير الأزمنة.
آثر عام 2010 حين زار دمشق أن يمرّ على المخيم وعلى المدرسة التي تعلم بها
قسم جدعان كتابه إلى مقدمة ما قبل الكلام وخمسة أسفار: سفر عين الغزال، يروي فيه عملية النزوح من قريته الفلسطينية. سفر حجارة رطبة، يروي فيه تجربة المرور القصيرة في الأردن باتجاه الشام، ثم تجربته العميقة في دمشق. سفر الضفة اليسرى، تجربة الانتقال إلى باريس لاستكمال الدراسة، وهي الضفة التي استغرقته في معاينة الفكر الغربي عامة، والفرنسي خاصة، وما نجم عنها من لقاءات فكرية جمعته مع فيلسوف الفلسفة الوجودية جان بول سارتر ورفيقته سيمون دي بوفوار. سفر فيليا، وتعني بالإغريقية الحب، لأن الحياة لا تعاش من دون حب، وفي هذا الفصل يتناول جدعان عودته إلى الأردن وبقاءه فيه. طائر التمّ يفقد الرضا، يتناول فيه تنقله بين عواصم عربية ولقاءاته بشخصيات فكرية متنوعة.
يروي فهمي جدعان بعض وقائع بسيطة حدثت معه ومع عائلته في أثناء طفولته "حين كان لا مرئياً" في بلدتهم عين الغزال جنوب حيفا، لكنها على الرغم من بساطتها تصور الواقع الجديد الذي طرأ على فلسطين مع دخول الصهاينة إليها، وبدء تغير العلاقة بينهم وبين الفلسطينيين أصحاب الأرض. ويروي ببساطة لا تخلو من الحزن عملية نزوح عائلته من القرية في جنح الظلام، وما حدث في تلك الليلة من أعراض الخوف التي انتابت الطفل فهمي جدعان، لم تكن سوى تعزيز للانفعال الذي ظل يصاحبه. يكتب في الصفحة الـ 80: "راحت أفواج العائلات والأهالي تغادر البيوت والأمكنة والأشياء، أما الرجال فمكثوا في أعطاف القرية وثناياها مصمّمين على متابعة القتال والمقاومة، بعد أن تركوا النساء يعالجن أمور أسرهن ويدبّرن أمور الخروج والارتحال". ثم يتابع في الصفحة التالية: "كان الظلام دامساً والطريق أمامنا غائضة الملامح، لكن الذين كانوا يسيرون في مقدمة الراحلين كانوا يعرفون الطريق، وكلما رأوا أنواراً تنبعث من أماكن قريبة ابتعدوا حتى لا يلحظهم أحد، وكانوا يطلبون إلينا أن نتوقف عن السير وألا نصدر أية أصوات، حين كانت تمر مركبة لمسلحين يهود".
سيرة مزدوجة للفردي والجمعي معاً، تجسدتا في فهمي جدعان، تحمل الحزن والأسى بقدر ما تحمل من الحب والفرح
لا يهدف جدعان من ذكر قصص النزوح إلى التذكير بحوادث تاريخية أصبحت معروفةً للجميع في عناوينها دون تفاصيلها، هدفه كشف بواكير الوعي السياسي/التاريخي في أثناء طفولته، ليحكي من خلالها قصة تغريبة الشعب الفلسطيني وتطور وعيه. وإذ يتذكّر الحالة النفسية التي اعترته، بعد أن نزل وعائلته في خيمةٍ في مخيم الإليانس نهاية شارع الأمين في دمشق، يكتب بأثر رجعي عن هذه الحالة، فيقول: "الخيمة عالم ذو معنى وذو حدود، حين تأتي إليها من المدينة تأتي إلى الفراغ، إلى غياب الأفق، إلى مقاماتٍ افتراضيةٍ لا أطر لها ولا معالم ولا آمال.. الخيمة عالم منقوص يفتقر إلى كل معاني الوجود". ثم يضيف: "للخيمة بابان، بل فتحتان، إحداهما تأخذك إلى العدم، والثانية تأخذك إلى الوجود"، إنها اختزالٌ للتجربة الفلسطينية بين العدم والوجود، ولمرارة الصراع النفسي الداخلي للنفس الفلسطينية التوّاقة إلى مغادرة العدم وولوج الوجود.
على الرغم من التجربة المأساوية على المستوى النفسي التي عاشها جدعان في فترة الانتقال إلى دمشق، فإن تجربته الشبابية في المدينة جعلت منها أيقونةً وجدانيةً وفكريةً لا تزال حاضرة في فكره، ولذلك آثر عام 2010 حين زار دمشق أن يمرّ على المخيم وعلى المدرسة التي تعلم بها، وعلى الأحياء التي كان يمرّ بها في شبابه.
إذ يغادر جدعان دمشق نحو ضفة أخرى، هي باريس، مروراً ببيروت، فإن عالماً آخر بدأ يلجه، عالماً أغنى تجربته ووعيه
في دمشق، بدأ يتشكل وعي جدعان السياسي والأدبي، بين متابعة الأحداث في فلسطين والساحة السورية، وبين ميله إلى الأدب والفن والموسيقى. كان للحراك السياسي والأيديولوجي في دمشق آنذاك أثر في تبلور وعيه، وما نجم عنه من نقاشات تتناسب وعمره آنذاك، ثم كان لدراسته الفلسفة أثر آخر على وعيه لاحقاً، مع تأثير الأساتذة الكبار (بديع الكسم، عادل العوا، عبد الكريم اليافي، أنطون مقدسي). وهو إذ يستعرض أساتذته في الفلسفة والاجتماع، والشخصيات التي عرفها بكل تنوعاتها الفكرية، إنما يستعرض، في الوقت نفسه، مرحلة تاريخية شهدتها سورية بشكل عام، ودمشق بشكل خاص، بكل ما تحمل من تناقضات.
وإذ يغادر جدعان دمشق نحو ضفة أخرى، هي باريس، مروراً ببيروت، فإن عالماً آخر بدأ يلجه، عالماً أغنى تجربته ووعيه. يحدّثنا في تفاصيل كثيرة عن هذه التجربة في باريس، ثم عودته إلى الأردن، وتنقله بين عواصم عربية، مع ما في هذا التنقل من غنىً فكري، يتشاطره مع مفكرين ذاع صيتهم.
"طائر التمّ .." سيرة مزدوجة للفردي والجمعي معاً، تجسدتا في شخص فهمي جدعان، تحمل الحزن والأسى بقدر ما تحمل من الحب والفرح.