"سيداتُ القمر" .. الإبداع والقسوة
كان من الممكن أن تَسقط رواية جوخة الحارثي، في ربع مسافتها الأولى، وهي تربط القارئ المنطلق بقصة ميّا الرومانسية، رغم أن ركن الرواية هنا كان هامشياً في سياق رحلة وجوه أبطال القصة، والبلدة العُمانية ونظامها الاجتماعي، لكن ذلك لم يحصل، فانعطافات الرواية المتوالية ظلت تشدّ القارئ إلى أفكارها المتعدّدة كما شخصياتها، وحتى الراوي المزدوج في ضمير الحكاية، بين القاص المحايد المجهول وضمير عبد الله ابن التاجر سليمان، كان بذاته مدخلا قد تفلت منه القصة في أي وقت، فيُلقي بها القارئ على منضدته، لكن ما جرى مع "سيّدات القمر" كان مختلفاً تماماً.
هل أسرفت جوخة في التحشيد النقدي الاجتماعي القاسي في مسرح الرواية، بغض النظر عن جمالها وجاذبية وقعها على القارئ وتعلقها به؟ وما المقصود بالإسراف؟ هل هو تراكم الصورة السلبية عن التاريخ الاجتماعي أو الزوايا غير المحكية في تاريخ الريف الخليجي، ولا أقول العُماني فقط؟ هنا زاوية تستحق النظر، فسردية الأحداث تعتمد على حقائق، وليس نسجاً إبداعياً معزولاً.
لا تعنيني اعتمادات المنصّات الدولية، ليس رفضاً لرابطتنا بالفكر الإنساني، وأننا جزء من هذه القرية الكونية، من تمازج الذات والآخرين والطبيعة من حولنا، وقبل ذلك في سرّ فطرة الله للأشياء والناس من حولنا، وفي تصادمنا وفي تراحمنا وفي تضادّنا، وفي المكنون النفسي المختلف عن الظواهر السلوكية، أو التعبيرات اللسانية التي يظهر بها ذلك الإنسان في مجتمع الريف. ولا أحسب أن قلب المدن يختلف كثيراً عن الريف في ساحل الخليج العربي، وإن بقيت لكل ناحية سياقات مختلفة ومنظومة متحدة. وهنا تحديداً كانت ريشة جوخة ترسم لوحة مسرحية مذهلة، تتجاوز بها ظواهر الذوات إلى تحشيدات النفس، وسردياتها المختلفة عن المعلن، أو عن المنطوق أو عن المهموس، وهي واحدة من الظواهر الصعبة بين الذات وشركاء المجتمع، أين أنا كعضو في هذا البيت أو الأسرة أو المجتمع، من البقية؟ وماذا يُمثلون لي وماذا أمثل لهم!
كان لا بد من طرح تساؤل الثورة الأنثوية في الرواية وهيمنتها
كلوحة أدبية، لا يمكن لي أن أُعطي وصفاً لهذا النحت، ثم نسيجه في الرواية إلا إبداعاً. أما كمراجعة فكرية، فقد أتوقف في دقّة أن يعكس مسرح صرخات النفس الاحتجاجية، أو ضيقها الشخصي أو مواقفها العارضة في الرواية مع شركاء الحياة، هذا الجفاف أو المفاصلة القاسية.
الغريب أنه كانت لعبد الله ابن سليمان التاجر رواية مختلفة مع ميّا، ومع البعد الإنساني الآخر الرافض للعبودية أو التطفيف، المنطلق مع إنسانية مختلفة، رغم صلف والده ومشاهد التوحش في تربيته، لكن الرواية أصرّت على وضعه في قفص روح الطفل المأزوم، لا المقاوم الضحية الذي يتوقف عند رسائل التصحيح الإنسانية في المشاعر، ولكن "سيّدات القمر" رفضت المآل الآخر الذي تتّحد فيه مشاعر الحب الصادقة من عبد الله، برفيقة دربه ميّا، رغم أن الحب بعد الزواج يتكرّر في حشد من حياتنا الاجتماعية في الخليج. وهو ما يحصل بالفعل بين الزوجين الموفقين، رغم لحظة التعارف الباهتة، ورغم خسارة اللوحة الرومانسية البسيطة التي تفتقدها عادةً أحلامنا الأولى مع فتاة الحارة أو الجيران، أو حتى ملتقى الأعين الصامتة، غير أن الرواية أصرّت أن تُبقي عبد الله في سياق الأسر الراديكالي ومشاعر الصدمة، والسخرية من بحثه عن الطريق الناجح لقلب ميّا. ربما كان المخيال المتشكّل في ثورة الذات الروائية، وفي صعود الغضب الأنثوي الذي يبرز بوضوح في القصة، كان له دورٌ في تجسيد المسرح، ورفض أي فرصةٍ للتأهيل، حتى لو كانت ضمن حقائق ثابتة، ليس في المخيال العُماني والخليجي، ولكنها في سيرة روح إنسان الساحل.
إذن، كان لا بد من طرح تساؤل الثورة الأنثوية في الرواية وهيمنتها، وهل هذه الثورة مبرّرة في مسرح الحكاية، من خلال حجم التضحيات التي تقدّمها المرأة لأجل الأهل والزوج غير الكفوء، رغم الفارق الكبير بين أزواج "سيدات القمر".
للرواق الأدبي مساحته، ولا يمكن لك أن تحاكم نصاً أدبياً روائياً أو سردياً، في حلقات علم فقهية
كانت نجيّة هنا الصورة المزدوجة للمرأة ذات الحلم الرومانسي، لكن غير معروفٍ لماذا اتخذت عزّان عشيقاً من دون أن تتحول فرصة ثروتها لاختيار زوجٍ كفوء، هل كان المجتمع في قسوته يقطع عنها فرص هذا الحلم؟ في الوقت ذاته، كانت لوحة وفائها العظيم لأخيها (التوحدي) وهمّتها الشجاعة في إدارة ثروتها، وروح المرأة المعطاء المتحرّكة وسط المجتمع الرافض مساحتها المشروعة، فصلا مهما في حكايات المرأة في الخليج العربي. ومن الصعب جداً أن أستدعي كامل الدلالات لرحلة "سيدات القمر"، فضلاً عن أن أعيد رسم رسائل القصة أو فلسفتها المستترة، في قراءتنا المستقلة لها، حين نعتمد غياب المؤلف. وهو تغييبٌ صعب، حين نسقط الرواية على الجغرافيا الاجتماعية للخليج العربي عموماً، وهنا خصوصية عُمانية، حين دمجت جوخة سردياتها بإبداع وتداخل اجتماعي في رحلة عُمان السياسية، كيف حضرت المقاومة العُمانية، وثورة ظفار اليسارية، وكيف تغيّر الموقف المبدئي من الثورة عند مشايخ الدين وشخصيات الكفاح ضد الإنكليز، ورفضهم ثورة ظفار، لأنها في معسكر اليسار القومي، فسجّلته لنا جوخة، ووقفنا عنده من دون أن تنقطع سرديتها المذهلة فينا.
أين موقع الإسلام الذي يوحّد المجتمع العُماني في الرواية، وخصوصا من خلال الجدل الذي ثار في عُمان حول القصة، وشرعية حكاياتها الصعبة على المجتمع؟ أؤكد هنا أن للرواق الأدبي مساحته، ولا يمكن لك أن تحاكم نصاً أدبياً روائياً أو سردياً، في حلقات علم فقهية. وما أقصدهُ هنا يختلف عن مساحة التجديف المباشر ضد الدين، بغض النظر عن الفرق بين إدانة العمل والسعي إلى تعقب كاتبه بما لا يجوز أصلا في المبدأ الإسلامي ذاته، وهو المبدأ الذي يحضر في مشهد العبودية الثائر في الرواية.