"رام الله".. رواية الإنسان والمكان
هل نكتب قصة مدننا أم تكتب المدن قصصنا؟ وإلى متى تصمُد حجارة المدن ونفوس البشر أمام تقلّب الزمن؟
في روايته "رام الله"، يضفر الروائي الفلسطيني عبّاد يحيى الأسئلة الوجودية، والمعلومات التاريخية، والتجارب الإنسانية، في ثنايا سردٍ ماتع، أمكنه تجاوز الانطباع الأول المتردّد أمام ثقل حجم الرواية، حيث جاوزت صفحاتها السبعمائة، وكذلك ثقل العنوان الذي تحمله. وبخلاف روايتيه السابقتين، "رام الله الشقراء" و"جريمة في رام الله"، فإن عنوان الرواية هذه المرّة يعد بتقديم المدينة بالكامل لا أقل، وهو تحد نجح فيه الكاتب.
تندرج الرواية تحت تصنيف "رواية الأجيال"، وهي من أعقد صنوف الروايات، حيث إشكالات إمساك خيوط متشعبة على مدار فترة زمنية طويلة، بلغت هنا زهاء قرن ونصف، شهدت تحول رام الله من قرية إلى مركز إداري عثماني، ينتقل إلى الانتداب البريطاني، ثم مدينة تحت الحكم الأردني، ثم الاحتلال الإسرائيلي، ثم "السلطة الوطنية" بعد أوسلو.
وكما استعرض نجيب محفوظ تاريخ مصر عبر أجيال عائلة السيد أحمد عبد الجواد، وسرد ماركيز تاريخ كولومبيا عبر عائلة بوينديا، فإن تاريخ رام الله نقرؤه هنا عبر عائلة بطرس النجار، التي رُسمت شخصياتها بإتقان، حتى يكاد القارئ يسمع قرقرة نرجيلة بطرس، ويرى الهلع في عيون نعمة، ويتأدّب في حضرة مستر مِل، ويتعاطف مع حنين سالم الممضِّ إلى زمنٍ ضائع لن يعود.
حرص الكاتب على الدقة التاريخية، وأرفق بالرواية قائمة مراجع عربية وأجنبية. توقفتُ عدة مرّات خلال القراءة للبحث عن اسم شخصية أو مكان لأجدها حقيقية فعلا، مثل البروفيسور يهوذا ماغنس، أحد مؤسسي الجامعة العبرية، والمناضل اليهودي قبل 1948 ضد التقسيم لصالح دولة واحدة متعدّدة القوميات.
يواصل عبّاد يحيى شغفه بالتجريب، فتنتقل فصول الرواية بسرعة بين الأزمنة، ويكتشف القارئ أن "الراوي العليم" لتاريخ أسرة النجار ليس الكاتب، بل هي عتبات الدار التي تخاطب الدكتور عماد، المُصاب بالصدمة بعد الوفاة المفاجئة لزوجته ريما. وتدريجياً، يكتشف الدكتور عماد ما لا يعرف عن مدينته، وعن زوجته، وكذلك عن نفسه. ولعل تعامل عماد بقدرٍ من التسامح مع اكتشافه العلاقة العاطفية بين زوجته الراحلة والمصوّر غسان عياد يحمل أيضا تسامحا مع مدينته بعد كل ما عرف، فالمدينة والبشر كلاهما يمكن إعذاره إذا ارتكب بعض الخطايا تحت وقع طرقات المآسي المتلاحقة.
لا تقدّم الرواية رام الله مدينة الصمود أو الانبطاح، ولا الفلسطينيين أبطالا أو شياطين، بل المكان كالبشر، كلاهما يحمل المتناقضات، ويتجاور فيهم العادي مع الخارق.
يسكن في الدار كمال، البطل المثالي في شجاعته، وكذلك في ذكائه السياسي، ويقاتل حتى الشهادة في الثورة العربية الكبرى عام 1936، كما يسكنها سالم الذي يتذبذب بين عمله مع الإنكليز وانتمائه العربي، يتذمّر من الثوار ويتبرّع لهم بالمال في الوقت نفسه. بعد عقود، سيدخلها المقاتل جهاد عنوة وهي مهجورة، وسيختلي فيها بحبيبته، بينما سلاحُه مستندٌ إلى الجدار.
تمنع أم أسير فلسطيني المصوّر غسّان من تصوير ابنها الذي انكسر بعد خروجه من السجن الإسرائيلي. تريد الحفاظ قسرا على صورة المناضل الصامد، بينما ينكسر مازن بعد تجربته مع ظلم القريب في سجن أريحا. أما جهاد فيتحوّل إلى زعيم محلي فاسد، بعد أوامر انسحاب غامضة أمام اجتياح إسرائيلي لرام الله إبّان الانتفاضة الثانية.
بين الشخصيات والمدينة علاقة حب غير مكتملة، كما لم تكتمل علاقة جهاد ومريم بسبب أبيها المسؤول الأمني، وكذلك سالم وماري، اللذيْن فرّقهما التردّد وانتظار مبادرة الآخر، بينما اجتمعت ريما والمصوّر لكنهما لم يجربا أبدا "المتعة الخالية من الذنب".
تنتهي الرواية بالقارئ إلى فهمٍ مركب للمكان والبشر، عميقا كعمق طبقات بناء رام الله حجرا حجرا، وبناء الرواية قصّة إثر قصة، كما أيقن الدكتور عماد، في النهاية، أن "الطبقات خلّفت فيه طبقات، وأن تعقيدا ما تراكب داخله ولن يدركه أحد".