"ذهنية التحريم" من محفوظ إلى رشدي
شابٌّ ينهال بوحشية بالطَعنات على مسنّ أعزل، بينما حقاً "لا يدري القاتلُ فيمَ قَتَل، ولا المقتول فيمَ قُتل". حدث ذلك المشهد عام 1995 في محاولة اغتيال نجيب محفوظ، على يد شابٍ لم يقرأ أبداً "أولاد حارتنا"، التي كُتبت قبل ميلاده بسنوات طويلة. ثم كأنما يعيد التاريخ نفسه في مأساة، شهدنا الواقعة نفسها في محاولة اغتيال الكاتب سلمان رشدي، على يد شاب لم يقرأ رواية صادرة قبل مولده.
في كتابه "ذهنية التحريم" قدّم الكاتب السوري صادق جلال العظم استعراضاً وافياً لأزمة "آيات شيطانية"، وما أحاطها من ملابساتٍ سياسية وفكرية، فضلاً عن تقديمه قراءة نقدية جادّة للرواية.
يكشف تتابع الأحداث عن مفاجأة أن الصحافة الإيرانية نشرت مراجعاتٍ نقدية عادية للرواية، امتداداً للموقف الإيجابي من إيران الثورة الإسلامية نحو رشدي، حيث تمت ترجمة روايتيه "أطفال منتصف الليل" و"العار" إلى الفارسية، ونالت الثانية جائزة أفضل رواية مترجمة في إيران، فضلاً عن كتابه عن الثورة في نيكاراغوا ضد الهيمنة الأميركية، وغيرها من كتاباتٍ وضعته بمصافّ مقاومي الاستعمار الغربي. ولكن بعد انطلاق الشرارة الأولى للهجوم من الهند، لا إيران، أصدر الخميني الفتوى بشكل مفاجئ، وهو ما قد يُفسّر سياسياً برغبته في إثبات وجوده بالساحة الإسلامية العالمية، بعدما انكسرت صورته الجامعة بسبب الحرب العراقية الإيرانية التي انحاز فيها أغلب العالم السني إلى العراق.
وبالعودة إلى محفوظ، قدّم الصحافي الثقافي محمد شعير، في كتابه "أولاد حارتنا... سيرة الرواية المحرّمة" قراءة معمّقة لسياق نشرها عام 1959 والذي كان هو تحديداً العام الذي أطلق فيه النظام الناصري حرباً شعواء ضد الشيوعيين الذين اعتقل آلافاً منهم. اتهم الإعلام الناصري انقلاب عبد الكريم قاسم في العراق بنشره "كتاباً محرّماً" يهاجم الإسلام بأمر من الاتحاد السوفييتي.
في السياق نفسه، احتفى النظام الناصري بشيوخ أزهريين، كان بعضهم رموزاً إخوانية فضّلوا الانحياز له، مثل محمد الغزالي وأحمد الباقوري وسيد سابق. وهكذا حين بدأت الهجمة ضد محفوظ، تدخل عبد الناصر ليستوضح من محمد حسنين هيكل، ثم انتهى الأمر إلى تشكيل لجنة أزهرية، تقبّل محفوظ نفسه توصيتها بعدم النشر.
وعلى صعيد آخر، استكمل صادق العظم عمله في كتابه الثاني "ما بعد ذهنية التحريم" إذ يردّ على كتّاب اشتبكوا مع كتابه الأول، وهنا يكشف التهافت المخجل لمثقفين كثيرين اعترفوا بأنّهم لم يقرأوا الرواية، فضلاً عن قراءات مضلّلة عجيبة، مثل استشهاد وزير الدفاع السوري (!)، العماد مصطفى طلاس، بمشهد تغوي فيه هند زوجة "أبوسنبل"، كبير المشركين، ذلك النبي "ماهوند"، بينما بالعودة إلى النص نجد مشهداً مختلفاً تماماً يؤكد الاستقامة الخلقية لماهوند... هذا غير محاكمة الخيال بمقاييس الواقع، كأنه يجب إعدام "كليلة ودمنة" لأنّ الحيوانات تتحدّث فيها خلافاً للحقائق العلمية.
بعد وفاة نجيب محفوظ، نشرت روايته في مصر عام 2006، وقد تسلّحت بمقدمتين لكاتبين إسلاميين، سليم العوا وأحمد كمال أبو المجد، وكلاهما أكّدا على الفارق بين الرواية والكتاب، والأهم على نيات محفوظ الذي كان يُسائل العلاقة بين العلم والدين، وتنتصر الرواية في نهايتها للجمع بينهما لا تناقضهما. كما أنّ محفوظ ذكر أنه كان يسائل مستقبل ثورة يوليو، بعدما انكشفت له انحرافاتها بوقائع السجن والتعذيب، ومراكمة بعض رجالها الثروات: "كنت أسأل رجال الثورة هل تريدون السير في طريق الأنبياء أم طريق الفتوات؟".
وبالمثل، شدّد سلمان رشدي مراراً على شعوره بالأسى من إساءة فهم عمله، فقد قال إنه قصد، على سبيل المثال، من اختيار اسم "ماهوند"، وكذلك اختيار اسم الرواية، معاندة الإساءات العنصرية الغربية، على طريقة تحويل السود في أميركا صفة "أسود" إلى "تعبير جميل عن الكبرياء الثقافية".
لكن، رغم كلّ هذه التشابهات، فإنّ طعنات هادي مطر تختلف في أنّها أضرّت باعثها سياسياً هذه المرّة، فإيران اليوم تسعى، بالتزامن مع المفاوضات النووية، إلى تثبيت صورة السلاح الشيعي المنضبط، لتقارنه بإرهاب التنظيمات السنّية العالمية، لكنّ طعنات هادي تذكّر أنّ الخرق أكبر من أن يُرتق.