"حماس" والدرس القاسي لإسرائيل
في حمأة المواجهات الصاروخية الضارية التي تدور بين حركة حماس والجيش الإسرائيلي منذ أيام، وعلى الرغم من ثمنها الباهظ في الأرواح الفلسطينية، فإن ما جرى، وبغض النظر عما ستؤول إليه التطورات اللاحقة، شكل صفعةً ودرساً لا يُنسى لإسرائيل، بأجهزتها الاستخباراتية والعسكرية، وبصورة خاصة لقيادتها السياسية.
الدرس الأهم أن الجميع في إسرائيل أخطأ في تقدير نيات "حماس"، استخفّ بالإنذار الذي وجهه قائد الذراع العسكرية في الحركة، محمد ضيف، يوم الخميس 6/5، وحذّر فيه إسرائيل من أنها إذا لم توقف عدوانها على حي الشيخ جرّاح في القدس المحتلة ستدفع ثمناً غالياً. وكذلك الإنذار بأنها إذا لم تغير طريقة تعاطيها مع الاحتجاجات حول المسجد الأقصى، فإنها ستتحمل العواقب.
تمكّنت حركة حماس من وضع موضوع القدس والصراع على المسجد الأقصى مجدّداً في قلب الأحداث والاهتمام الدوليين
صواريخ حركتي حماس والجهاد الإسلامي، الثقيلة وبعيدة المدى والدقيقة، لم تصب فقط القدس وعسقلان وأشدود وغوش دان، بل الأهم أنها أصابت الكبرياء الإسرائيلي. ما حدث في الأيام الماضية وصفه معلقون إسرائيليون بالمفاجأة، لكن وصفه الفعلي هو صفعة زعزعت مبادئ العقيدة الأمنية التي تعاملت بواسطتها القيادتان، السياسية والعسكرية، مع الوضع في غزة، ومع "حماس" تحديداً.
كشف ما جرى بالدرجة الأولى تآكل قدرة الردع الإسرائيلية، وأن "حماس" وسائر الفصائل لا تخاف، ولا يردعها الدخول في مواجهة صاروخية مع أقوى جيشٍ في المنطقة، وعلى الرغم من عدم التكافؤ الكبير في القدرات العسكرية بين الطرفين، وعلى الرغم من الثمن الباهظ الذي يدفعه الغزّيون من حياتهم وممتلكاتهم. لقد فاجأت صواريخ "حماس" الجميع، وأجبرت أكثر من مليون إسرائيلي على الاختباء في الملاجئ. وعلى الرغم من تباهي الإسرائيليين بقدرتهم على اعتراض الصواريخ من خلال منظومات متطوّرة مثل القبّة الحديدية وغيرها، فقد فوجئت القيادة العسكرية للجيش الإسرائيلي بالقدرة الصاروخية التي راكمتها "حماس" خلال سبع سنوات، ودقتها في إصابة أهدافها.
الدرس الثاني خطأ التقديرات الإسرائيلية لنيات "حماس" التي توقعت أنه ليس من مصلحة الحركة الدخول الآن في تصعيد كبير. كما تهاوت المقولة التي عمل عليها الإسرائيليون، منذ انتهاء عملية الجرف الصامد، في العام 2014، بأن قيادة "حماس" يهمها حالياً بالدرجة الأولى تحصين حكمها، وتحسين ظروف الحياة المعيشية لأهالي قطاع غزة، وأنه كلما تحسّنت هذه الظروف أصبحت "حماس" أكثر مرونة واعتدالاً واستعداداً للدخول في تسوياتٍ وتهدئة بعيدة المدى في القطاع. اعتقد الإسرائيليون أن في وسعهم تدجين "حماس"، كما فعلوا مع السلطة الفلسطينية، لكنهم كانوا على خطأ.
"حماس" حققت الهدف الذي كانت تسعى إلى تحقيقه في الانتخابات
الدرس الثالث، تمكّن حركة حماس من وضع موضوع القدس والصراع على المسجد الأقصى مجدّداً في قلب الأحداث والاهتمام الدوليين. لقد تحركت "حماس"، هذه المرّة، لنصرة الشباب المقدسيين المدافعين عن المسجد الأقصى، ولوقف اقتلاع العائلات الفلسطينية من حي الشيخ جرّاح. ومن خلال تحرّكها العسكري، جسّدت "حماس" وحدة مصير الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية والقدس، وكذلك عرب الـ48، حيث أبرز دليل على ذلك موجة الاحتجاجات العنيفة في بلدات مختلطة في شتى أنحاء البلاد، والمواجهات بين السكان العرب من جهة والشرطة الإسرائيلية وأنصار اليمين من اليهود المتطرّفين من جهة أخرى، ما أثار المخاوف من اندلاع حرب أهلية بين العرب واليهود.
يعترف الإسرائيليون الآن بفشل سياستهم الملتبسة حيال حركة حماس طوال السنوات الماضية، وافتقارها إلى مقاربة عميقة وبعيدة المدى. لقد تبيّن اليوم أن السياسة التكتيكية القائمة على تعزيز الانقسام الفلسطيني بين الضفة الغربية وقطاع غزة، من خلال إضعاف السلطة الفلسطينية وتأجيج المنافسة بينها وبين "حماس"، لا يمكن أن تشكّل سياسة ناجعة لمعالجة المشكلة الفلسطينية المستعصية، وأن هذه المعالجة الخرقاء حولت "حماس"، بحسب قول أحد المعلقين الإسرائيليين، إلى "زعيمة الساحة الفلسطينية" بلا منازع.
كشف ما جرى تآكل قدرة الردع الإسرائيلية، وأن "حماس" وسائر الفصائل لا تخاف
يدّعي الإسرائيليون أن تأجيل أبو مازن انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني جنّبه فوز "حماس" الساحق فيها، لكن الراهن اليوم، على الرغم من الألم والدماء وعدم التكافؤ في موازين القوة، أن "حماس" حققت الهدف الذي كانت تسعى إلى تحقيقه في الانتخابات.
ستكون الأيام المقبلة حاسمة وحرجة للغاية، سيما في ظل التهديدات عالية النبرة من إسرائيل بأنها ستدفّع "حماس" ثمناً باهظاً. ولكن مهما ستؤول إليه المواجهة الدائرة، فإن ما حققته واضح. إسرائيل التي تملك أقوى جيش في المنطقة في ورطة. وما يجري حالياً على الجبهة مع غزة لا بد أن تكون له تداعيات أيضاً على سائر الجبهات. وقد ثبت اليوم أن الإهمال الإسرائيلي المتعمد للمشكلة الفلسطينية، والتعويل على استمرار الستاتيكو في القدس وفي المسجد الأقصى وسياسة إدارة النزاع لم يعد مجدياً، ومن دون حل المشكلة الفلسطينية لن يعرف الإسرائيليون الهدوء.