"تويتر".. نحو توتاليتارية إعلامية
حاز الملياردير الأميركي، إيلون ماسك شركة تويتر أخيرا بعد صفقة عملية استحواذ، بقيمة 44 مليار دولار، في خطوة تعدّ انتصارا لأثرى رجل في العالم. هو رجل أعمال كندي، حاصل على الجنسية الأميركية، ولد في جنوب أفريقيا، ومستثمر، ومهندس ومخترع. مؤسس شركة سبيس إكس ورئيسها التنفيذي، والمصمم الأول فيها. المؤسس المساعد لمصانع تيسلا موتورز ومديرها التنفيذي والمهندس المنتج فيها. شارك في تأسيس شركة التداول النقدي الشهيرة باي بال، ورئيس مجلس إدارة شركة سوالر سيتي. يطمح إلى تجسيد فكرة نظام النقل فائق السرعة المسمّى بالهايبرلوب. تقدر ثروته 270100000000 دولار.
وعن ميوله السياسية يقول ماسك إنه "نصف ديمقراطي، نصف جمهوري". وقال في حوار معه "أنا في مكان ما في المنتصف، ليبرالي من الناحية الاجتماعية، محافظ من الناحية المالية". في عام 2016، أصبح العضو الثاني في اللجنة الاستشارية للمرشّح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب المنتدى الاستراتيجي والسياسي، مبادرة وظائف التصنيع. ولكنه استقال في عام 2017، اعتراضا على قرار ترامب سحب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس بشأن تغير المناخ. يعتبر ماسك نفسه "من الأميركيين المتعصبين". وفقا له، الولايات المتحدة هي "أعظم دولة وجدت على سطح الأرض" و"أعظم قوة لصالح أفضل بلد".
ما الذي يبقى من العولمة، حيث تسود سلطة شخص ما يمسك باللعبة الإعلامية، ويمكن أن ينطلق منها في عزل التأثيرات الخارجية، ووقف طرائق الاتصال لأدوات عولمة دائمة
من شأن ملكية "تويتر" أن تمنح ماسك سلطة على القضايا السياسية والاجتماعية والإعلامية والاقتصادية، كنقاشات عالمية مطروحة على الشبكة، وبدأت تطرح معها مسألة "حرية التعبير"، الأساس في ديمقراطية الإنترنت الفاعلة، حيث تجري مناقشة الأمور الحيوية، لا سيما مع نموذج مستخدمي هذا الموقع الذي يستخدمه الملايين وزعماء عالميون.
انتقال الملكية إلى إدارة بمرجعية مركزية واحدة بطرح تساؤلات عديدة بشأن تحوّل المنصة إلى ملكية فردية، وتأثير ذلك على لغة التعبير والتواصل، بالنظر إلى وسيلة قوية ونافدة وذات طبيعة تسويقية في مجاميع الرسائل، التغريدات التي تبثها المنصّة، وعلى مستقبل موظفي هذا الموقع، على نحو من إقطاعية رأسمال القرن الواحد والعشرين، وإقطاعية إعلامية جديدة باستعارة مصطلح الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي.
تحيط الأسئلة بـ"أضخم صفقة لتخصيص شركة" (بتعبير صحيفة نيويورك تايمز)، وبما ينوي ماسك فعله مع "تويتر" خلال عقدين على الأقل، وهو صاحب تصريحات متناقضة لم تقنع الوسط السياسي والإعلامي كثيرا: "حرية التعبير هي الحجر الأساس لديمقراطية فاعلة، وتويتر هو ساحة المدينة الرقمية، حيث مناقشة الأمور الحيوية لمستقبل البشرية". وأنه "يريد تطيير تويتر ليصبح أفضل من أي وقت مضى من خلال تحسين المنتج وجل الخوارزميات مفتوحة المصدر لزيادة الثقة وهزيمة روبوتات التغريد العشوائي".
تأتي إدارة جديدة هيراركية، في خضم العلاقات الدولية التي تشهد نزاعاتٍ محورية الطابع، على خلفية الحرب الروسية في أوكرانيا، وظهور روسيا بمظهر مارد عسكري، ينهض من جديد بأيديولوجية الحرب الباردة، وعلى وقع انصراف الصين إلى بناء قوتها الاقتصادية والعسكرية، والأزمات المتفاقمة في الشرق الأوسط. يعني وسط لحظة راهنة متنامية بالفوضى الدولية، وعلى مسرح نظام ديمقراطي عرضة للهجوم في أوكرانيا، وعرضة أيضا لانفلات الجغرافيا السياسية من السيطرة.
الخشية أن تتحوّل منصة تويتر خارج الانتظام العام والعاجز عن فرض نظام ليبرالي، متنازع عليه حتى بين الدول الغربية نفسها التي تسعى إلى سنّ تشريعاتٍ تؤطّر عمل المؤسسات الرقمية، والحد من هيمنتها على الأمور السياسية والاجتماعية والثقافية والمالية، وعلى كل شيء تقريبا وفق فرانسيس فوكوياما (الإيكونوميست).
من شأن ملكية "تويتر" أن تمنح إيلون ماسك سلطة على القضايا السياسية والاجتماعية والاعلامية والاقتصادية
الإعلام الخارجي للولايات المتحدة والسياسة الخارجية صورتان لا تفترقان (لم تعلن إدارة الرئيس بايدن موقفا محدّدا من الصفقة)، فهما يتفاعلان مع بعضهما بعضا للوصول إلى أهداف توسيع رقعة النفوذ الغربي على حساب روسيا والصين. يرفض الإسلاميون الفكرة بأسرها حيال نظام ليبرالي غربي، لذلك ترتسم مخاوف أمام التوسع غير المحدود لوظيفة المالك الذي لا يمكن إلا أن يدفع بالحدس الوسيط، عما إذا ما كان فرصة لتعزيز المسار الديمقراطي للشبكة، وما هو بحاجة إلى الحرية لتحييد النزعة الفردانية، بخلاف ديمقراطية السوق، وفق تعبير الكاتب الفرنسي جاك أتالي (1943). وبالاقتراب من تلك اللحظة، تتوجه أخلاق المسؤولية إلى الأجيال التي تبحث عن الثورة الديمقراطية المعاصرة على هذه الشبكة (كارل بوبر 1902 - 1994).
الخطوة قد لا تعني (إلى الآن) أن الديمقراطية مهدّدة، ولن يترك إيلون ماسك نفسه إلى عينة، تخالف الرهان على المجتمع المفتوح، وإنْ يضع أمام موظفيه نسقا مخالفا كليا لمصادر الشبكة، وهو سارع إلى تهدئة الاعتراضات الاجتماعية. مع ذلك، تتحوّل "تويتر" معه إلى توتاليتارية إعلامية، تنتهي باستثارة حساسة لأخطار مقبلة، ولا ننسى أن علينا باستمرار إعادة إنتاج المجتمع المفتوح، ففكرة يوهان أركيولا جدّية "ليس من يملك القنبلة الكبيرة من سيربح، إنه الذي سيقصّ التاريخ جيدا".
لتنذكّر جيدا ما قاله نائب الرئيس الأميركي الأسبق، آل غور، في سنوات التسعينات، وهو كلام للغد: "إذا لم يظهر سوى الإنترنت لتحدّي الرقابة والنمو، فليس علينا سوى سبر أغوار الديمقراطية على الكوكب الحرّ". لا يمكن أن تعمل "تويتر" في سياق أوركسترالي، وفي توحيد أحادي للرأي العام من خلال الصور والتغريدات، بشكلٍ يجعلها خاضعة لرسائل أحادية الجانب، بأثر آخر يشبه الكابوس القريب.
انتقال ملكية تويتر إلى إدارة بمرجعية مركزية واحدة يطرح تساؤلات عديدة بشأن تحوّل المنصة إلى ملكية فردية
ما الذي يبقى من العولمة، حيث تسود سلطة شخص ما يمسك باللعبة الإعلامية، ويمكن أن ينطلق منها في عزل التأثيرات الخارجية، ووقف طرائق الاتصال لأدوات عولمة دائمة، حتى لو لم يعد العالم يعيش الثنائية القطبية، أو أنه في مرحلة تعدّدية قطبية؟ استغرقت "تويتر" النقاش الأكثر يوتوبية، وغذّت الصورة والمعلومات العالمية بقوة، وشكّلت مكتبة بابل بورخيس (1899-1986) الإعلامية. يجب ألّا تخطئ بعدها قوة الحقيقة والتعريف عن نفسها. وينتظر المستخدمون لها أخذ استنتاجات سريعة عما يجري داخل المؤسسة، وهناك ذلك الانفصام الدائم بطرح شعارات الديمقراطية، لا سيما حين تجتمع سلطة المال مع سلطة الميديا، ما ينتج سلطة سياسية مطلقة. والديمقراطية تستحق فكرا نقديا ومسارا تنمويا ناجحا والعالم في قلب النزاع والحدث. فردانية تملك رقمنةً تتعاطى مع اللاوعي السياسي، أو الوعي السياسي، لا نعرف كثيرا عن المالك الجديد .. الخطر هو في اللاوعي السياسي في فضاء إلكتروني لا يساعد على النقاش للأسف، ويزيد من إمكانات تحوّل الهوية وتطوّرها بطريقة لا يمكن السيطرة عليها في صراع الدول. والأخيرة كائنات هائلة ومتوحشة وخرافية. قرأنا خبرا غير سارّ عن قرار المملكة المتحدة تسليم الولايات المتحدة المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي الأميركية، إدوار سنودن، وهو الذي كشف أن السلطة في أميركا داست على حق المواطنين وحياتهم الخاصة. لولا هذا الرجل لما عرفنا شيئا عن "الرسائل الاستبدادية" التي تضرب الديمقراطية.
ليس التواصل ممارسة طبيعية، وإنما عملية تفاوض هشّة. ولهذا، ليس الإعلام كافيا لإحلال التواصل. وفي معظم الأحيان، التواصل هو تعايش. لدى المالك الجديد لـ"تويتر" النيّة لتفعيل هذا التواصل. هو الحلم المؤجل في زمن عودة الحرب "التباعد التفاعلي". جيد! المهم هو نزع الطابع التقني عن الشبكة على أهميته (أيديولوجيا تقنية)، وعدم إعطائها معيارية مبالغا فيها، وإعادة الاعتبار لجوانب التاريخ والسياسة والثقافات، واستعادة أهمية المجتمعات الكامنة خلف هذه الشبكة (تعبير المفكّر الفرنسي دومنيك فولتون). وهي مفارقة بالغة، من جهة الخضوع إراديا لتقنيات الاتصال التي مكّنت من الانعتاق. ومن جهة أخرى، هو الخضوع لنوع من "العبوديات الإرادية". وإلا فما معنى هذا الانبهار بشخص الملياردير الباذخ إيلون ماسك، والسرعة في إعلانه ملكية الشبكة. كأن السرعة مرادفة للحقيقة والموضوعية. ورغم المظهر، تبدو العملية غير مهيأة جيدا، والإعلام الغربي يعاني فراغاتٍ كبيرة. ثم ما الذي يستطيع إيلون ماسك أن يلتقطه أمام تلك الفضاءات الهامشية الفوضوية/ الرابوتية بمفردات أيديولوجية غير متجانسة؟