"المُفسِّرون" .. طبقة مريدي قيس سعيّد المُبهمة
لا أحد يعلم تحديدا أين سينتهي الوضع الذي أسس لهُ في تونس قيس سعيّد. وما زال مُريدوه يُؤولون "مشروعهُ" منذ حملته الانتخابيّة قبل ثلاث سنوات. وهذا دليلٌ على أن لا أحد يعلمُ قطعا ماذا يُريدُ الرئيس. يُوصف هؤلاء في تونس بـ"المُفسرين"، نسبة إلى "الحملة التفسيرية" الانتخابية للرئيس التونسي. ولا أحد على يقين إن كانوا مُكلفين منه أو هم مُتطوعون من المريدين، أو "مُهرولين" مُلتحقين بمسار جديد عَلمْنا بداياته، ولا يمكن الحسم في مآله.
لا حزب للرئيس، ولم يُعلن أن أحدًا من أنصاره ينطق باسم مشروعه، أو فوّض ناطقين باسمه. حتى مؤسسة الرئاسة بلا ناطق غيره. لا تدعو الصحافة إلى ندوات، ولا يجري الرئيس حوارات إلا إذا أجاب على سؤال صحافي في الشارع، حيث يخرج بلا موعد في الربع الثاني من الليل. للرئيس والرئاسة صفحة فيسبوك تنشر البلاغات (البيانات) بعد صلاة العشاء، كما لو كان الأمر طقسا جديدا في الاتصال.
رئيسة الحكومة لا تنطق إلا في بعض المناسبات الرسمية بجملٍ مكتوبة وموجزة لتعلن عن قرارات ولا تتخذ مواقف. بعض الوزراء نظموا ندوات صحافية قليلة بشكل مُشترك، ولم يتجاوزوا المسائل التقنية لوزاراتهم، والحال أن رُتبة وزير سياسيّة، وأنّ عضو حكومة يُعبّر عن مشاريع وزارته في إطار سياسة عامّة للدولة تضبطها الحكومة. إنهم مُساعدو الرئيس لا أكثر!
الشعب لا يعرف ماذا تريدُ لهم الدولة إلا من خلال المراسيم التي تُنشر في الجريدة الرسمية، وكاتبها واحدٌ وموقعها واحدٌ. ولا مسؤول في الدولة يتكفل بعناء شرحها وتِبيانِ أسباب تنزيلها. وحدهم "المفسّرون" ينطقون باسم الدولة، بلا صفة في الدولة، ولا تفويض مُعلن من صاحب الدولة الواحد في سلطانه جامعُ السُّلطات كلها.
.. زمن الدكتاتورية، قبل الثورة، كانت الأمور واضحة حيث نعرف خطاب الدولة وخطاب حزب الدولة وتأويلات خُدّام الدولة. كانت البرامج تُنشرُ بالشكل الرسمي، فحتى إن كُنت مُختلفا معها مائة وثمانين درجة فإنك على الأقل عارفٌ بها. وكان الحزب معلومٌ يُمجّد قرارت "سيادته" ويحشد الجماهير ويُرعبهم ويكتب الوشايات في من امتعض أو رفض. كما كان الخدم "التكنوقراط" و"مثقفو البلاط" يتكفلون بالتبرير والتزيين والتنميق.
يمكن للسياسي أن يقول ما يشاء، كأن يعدَ أو يتوعّد، وكأن يأتي بأشعارٍ من كتاب قديم ويذكر عبرا في غير موضعها
لخّص قيس سعيّد برنامجَهُ في جملة من الشعارات، بعضها مُغرٍ صراحة ومطلوب، كمقاومة الفساد والسيادة الوطنيّة والعدالة الاجتماعية، وخصوصا "الجمهورية الجديدة". تبدو هذه الجمهوريّة في ذهنه فحسب، فلو جمعنا مُدوّنة ما نطق به ونشرهُ سيكون من العسير تبيّن ملامحها ومُميزاتها. أمّا ما نُشر من نصوص رسميّة وأهمّها "الدستور الجديد" فإن من اليسير أن نتبيّن أنّ النص ضرب أسس الديمقراطية، وأدخل التونسيين متاهة مؤسسات جديدة، في المستوى السياسي. وأنّ المراسيم ذات البعد الاجتماعي لم نر غير حِبرها.
يمكن للسياسي أن يقول ما يشاء، كأن يعدَ أو يتوعّد، وكأن يأتي بأشعارٍ من كتاب قديم ويذكر عبرا في غير موضعها. لكنّ الدولة تحتاجُ برامجَ مكتوبة ومشاريع مضبوطة وخُطط تنمية وقرارات سيادية لا خصومات بهلوانية.
.. الخطيرُ في خطاب "المُفسرين" أمور خمسة: أوّلها، الثقة المُفرطة في أن الأمور جيّدةٌ وذاهبة إلى الأفضل في كلّ الأحوال. هذا من دون تقديم برهان عدا تِعداد فشل منظومة الحكم خلال عشرية ما قبل الإعلان الدستوري للفصل الثمانين الذي اعتمدهُ الرئيس لتجميد البرلمان وإعفاء الحكومة في 25 يوليو/ تموز للسنة الفارطة. ويبدو أن أغلب التونسيين يذهبون في هذا الاتجاه، لذا يقع استثمار هذا العامل تهديدا وتخويفا أنّ البديل لـ"مشروع" قيس سعيّد هو عودة منظومة الحكم السابقة.
ثانيها، تميُّز خطابهم بالعنف الشديد ومُعاداة من يختلف ولو قليلا، حتى لو كان مُخالفا لهم ولخصومهم المباشرين ممن حكموا قبل الرئيس. خطابٌ مُعجمه التضليل والشتم والسحل على صفحات التواصل الاجتماعي، وفي كلّ حضور في وسائل الإعلام. حتى أنّهم تفوقوا على سابقيهم، ولم يتعظوا من أن بعضهم كان مُستهدفا بالشكل نفسه مع المنظومة القديمة.
ثالثها، الشعبوية المُفرطة التي لا تُقدّمُ مضمونا ولا تُجيبُ عن أيّ من الأسئلة الحيويّة للتونسيات والتونسيين، فحتى أثناء تأويلهم قرارات الرئيس، نتبيّن أنهم لا يفهمون "المقاصد"، ويتعسّفون على النصوص، ويذهبون بها أبعد من حدودها.
صخب "المفسّرين" مُناسب للرئيس، فلا هو مُلزمٌ بما يقولون، وهو المستفيدُ ممّا يأتون. تتعدّدُ إساءاتهم باسمهِ، وهو عمّا يقولون ساهٍ
رابعها، لا أحد غيرهم على حق، وليس لغيرهم بعضُ الحق. مناضلون كُثر تصدّوا للدكتاتورية، وكانوا أشجع منهم في التصدّي للمنظومة السابقة، أصبحوا مُستهدفين ويقعُ "سحلهم" وتُنزع عنهم صفة النضال، وتلفّق ضدهم التهم.
خامسا، كثرة المُفسرين غيّبت عن التونسيين من يمكن أن يكون فيهم من العقلاء الذين (ربما) يتبنون مشروعا مُشتركا مع الرئيس فيه النفع للبلاد والعباد، ولكننا لا نقدر على تبيّنهم وسط هذا الضجيج المُخيف وهذا الهتاف الأعمى.
.. يبدو أنّ صخب "المفسّرين" مُناسب للرئيس، فلا هو مُلزمٌ بما يقولون، وهو المستفيدُ ممّا يأتون. تتعدّدُ إساءاتهم باسمهِ، وهو عمّا يقولون ساهٍ، لا هوُ يُنكرهُ وإن سكتَ أجازهُ فتمادوا. لكنْ، لننتبهْ إلى أنّه يُحرضهم كلما كان خطابُهُ حادّا تجاهَ من يعترض على "مسار التصحيح" من "المناوئين" و"الخونة". إنه لا يتهمُ جهة بعينها، ولكنّهُ يُطلق بهذا "المُفسرين" على كلّ صوت معارض لهُ من دون تنسيبٍ... وككُلّ الزعماء المُعتقدين مُطلقا في امتلاك الحقيقة لا يرى غير نفسهِ، ويتقصّدُ التأكيد أنه مُعبّرٌ وحدهُ على إرادة الشعب، وأن الشعب، كلُّ الشعب، معه.
.. مُفسرو قيس سعيّد ليسوا وحدهم، ولا هذه الموجة الشعبوية انطلقت مع حدث 25 يوليو (2021). وإلى اليوم يُشاركهم فيه أنصار أحزاب وكُتل برلمانية مُنحلّة من اليمين إلى اليسار. الفارق أنّ "المفسرين" باسم الرئيس انبروا يتحدثون باسم الدولة، هكذا! وما يُميّز "طبقة الشعبوية" من كل فصيل وكل اتجاه أنّها تجمعُ كلّ الفئات وكلّ التجارب، زُعماؤها ومُبدعوها ومُنتجو مضامينها الأساسية، جامعيون ومُتعلمون ومؤثرون في تلفزات ومُتحدثون باسم أحزاب وتنظيمات وهيئات. ثمّ، فلينخرط المُنخرطون، ولتحتدم المعركة.. يلتقط جمهور عريض المنهج ويبدأ تأليف الرداءة بكل لون.
.. "المُفسرون" آخر صنيعةٍ سياسيّة، "المُفسرون" طبقة صناعة الشعبويّة.