"المفاجأة" التركية
لا تستوي الصدمة التي أبداها بعضهم من "التغيير" الذي أعلنه وزير الخارجية التركي، مولود تشاويش أوغلو، في مؤتمر السفراء الأتراك الأسبوع الماضي، بشأن موقف بلاده من الأزمة السورية، وخصوصاً دعوته إلى عقد "مصالحة" بين النظام والمعارضة، مع المؤشّرات العريضة التي تصدر عن تركيا منذ بعض الوقت بهذا الاتجاه. والواقع أن التغير في الموقف التركي من الأزمة السورية ما كان يجب أن يفاجئ أحداً، فأولاً لم يحصل بين ليلة وضحاها، بل هو مستمرٌّ منذ سنوات، حتى بلغ مرحلته التي أعلن أوغلو فيها اجتماعه بوزير خارجية النظام السوري، فيصل المقداد، في بلغراد الخريف الماضي، وإن كان، كما قال، وقوفاً على الأقدام. وثانياً، لأن الظروف التي أملت السياسة التركية عشية انطلاق الثورة السورية لم تعد قائمة (وكانت جزءاً من سياقات الربيع العربي)، هذا يستتبع أن التغير في الموقف التركي من سورية لا يأتي منفصلاً عن تغييراتٍ أشمل تتعرّض لها السياسة التركية منذ بعض الوقت في العلاقة مع السعودية، والإمارات، وإسرائيل، ومصر، وإيران وغيرها (إعادة تفعيل سياسة صفر مشاكل). وثالثاً، لأن مصالح الدول وحساباتها تتغير ومعها السياسات التي أملتها بتغير رؤية نخبة صنع القرار لها.
بدأ التغير في السياسة التركية يأخذ منحاه الراهن منذ التدخل العسكري الروسي في سورية في سبتمبر/ أيلول 2015، الذي أدّى إلى توترٍ كبير في العلاقة بين أنقرة وموسكو، وخصوصاً بعد إسقاط تركيا طائرة روسية على الحدود مع سورية في نوفمبر/ تشرين الثاني التالي. ومع إقالة رئيس الوزراء، أحمد داود أوغلو، في مايو/ أيار 2016، الذي حُمِّل مسؤولية تدهور العلاقة مع موسكو، بدا واضحاً أن الرئيس أردوغان يتجه نحو تغيير سياسته السورية. تسارع هذا التغيير بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليو/ تموز 2016 والدعم الذي تلقاه أردوغان خلالها من نظيره الروسي، حتى إن تقارير صحافية تركية ذكرت حينها أن بوتين هو من أبلغ أردوغان بالمحاولة الانقلابية التي قال الأتراك إن التخطيط لها قام به ضباط يعمل بعضهم في قاعدة أنجيرلك التي تستخدمها الولايات المتحدة (!!).
في ضوء التدخل العسكري الروسي، غدت سياسة تغيير النظام في دمشق، التي تبنّتها أنقرة منذ خريف عام 2011 غير واقعية. وبناءً عليه، صارت الانعطافة نحو التفاهم مع روسيا بدلاً من مواجهتها، خصوصاً بعد أن قرّرت واشنطن التحالف مع الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سورية. تحول اهتمام تركيا، بناءً عليه، نحو درء مفاسد السياسة الأميركية على أمنها القومي، وفي مقدمها كبح جماح الطموح الكردي المسلح بالدعم الأميركي. وقد أدّى ذلك إلى ترسيخ التفاهمات التركية الروسية الناشئة، وجوهرها تخلّي أنقرة عن سياسة تغيير النظام في دمشق، مقابل تعاون موسكو في منع قيام كيان كردي على الحدود. ثلاث عمليات عسكرية تركية جرت، منذئذ، شماليّ سورية بالاتفاق مع موسكو (درع الفرات 2016، غصن الزيتون 2018، ونبع السلام 2019)، وأدّت إلى تقطيع أوصال الدولة الكردية المحتملة على الشريط الحدودي الممتد بين القامشلي وعفرين.
بالتوازي، تمثل تخلي أنقرة عن سياسة تغيير النظام في دمشق بالموافقة على مقترح اللجنة الدستورية لحل الأزمة السورية، التي تعني عملياً حصول تسوية بين النظام والمعارضة. لكن أنقرة ذهبت خطوة أبعد بهذا الاتجاه، مع بروز قضية اللاجئين السوريين، باعتبارها قضية جوهرية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرّرة في يونيو/ حزيران المقبل، والتي بات إيجاد حل لها أولوية لدى حكومة الرئيس أردوغان. فوق ذلك، بدأت تظهر بفعل حرب أوكرانيا وأزمة تايوان اصطفافات عالمية جديدة قد تنتهي بانقسام العالم إلى معسكرين كبيرين: رأسمالي ليبرالي (يضم أوروبا والولايات المتحدة) ورأسمالي غير ليبرالي (يضم روسيا والصين وإيران). وتحاول تركيا، التي يميل عقلها إلى الأول وهواها إلى الثاني، أن تحدّد مكانها بينهما. استمرار الأزمة السورية لا يسمح لها بذلك، من هنا الرغبة في التخفف منها. يبقى أن لسؤال الطاقة في شرق المتوسط مكاناً مهماً في حسابات تركيا السورية، لكن هذا نقاشه يأتي لاحقاً.
يبقى القول، إنه لا ينبغي أن نفهم هنا محاولة تفسير سياسة تركيا السورية وتبريرها، بل باعتبارها خطوة لازمة وضرورية للتعاطي معها بجدّية بعيداً عن التشنّجات المعتادة، سواء رفضاً لها أو اتفاقاً معها.