"المركزي الفلسطيني" .. تكريس الانقسام وإعادة إنتاج السلطة
بدا اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني، الأسبوع الماضي، واضحاً في أهدافه منذ الإعلان عن عقده قبل ثلاثة أشهر تقريباً. وهو ما تأكد طبعاً عبر مجريات الاجتماع، كما بيانه الختامي، الخطابي الإنشائي والمتحاذق.
كانت الدعوة إلى عقد الاجتماع، بعد إلغاء (للدقة الهرب من) الانتخابات الرئاسية والتشريعية بمثابة إعلان رسمي عن إنهاء عملية الحوار واللقاءات التي سعت إلى إنهاء الانقسام وتطبيق تفاهم المصالحة ووثائقها، فقد جاء الإعلان عن اجتماع المجلس بشكل أحادي من دون توافق أو تفاهم وطني، علماً أن الأجندة الوطنية المتفق عليها في حواراتٍ استمرّت سنوات، وتنقلت ما بين القاهرة وبيروت وإسطنبول، مختلفة، بل متناقضة تماماً، وتتحدّث عن أولويات مغايرة، تتعلق بتفعيل الإطار القيادي لمنظمة التحرير، أو حتى للأمناء العامين للفصائل، كقيادة مرحلية مؤقتة، تعمل على تشكيل حكومة وحدة وطنية، وإجراء الحزمة الانتخابية الكاملة لضمان إعادة بناء شفافة ونزيهة للمنظمة وباقي المؤسسات، تحديداً المجلس الوطني باعتباره البرلمان الجامع، والذي هدف الاجتماع أخيرا إلى تحييده نهائياً لصالح المركزي الذي سيعقد أيضاً في المناسبات وعند الضرورة، أو غبّ طلب للقيادة الحالية.
بناء عليه، لم يكن غريباً أن نرى مقاطعة واسعة للاجتماع من قوى فلسطينية أساسية، سواء من حركة حماس التي لا تشارك في العادة في اجتماعات المجلس المركزي، واعتبر انضمامها هدفا وطنيا عاما، كما من الجبهة الشعبية، ثاني أكبر فصيل في منظمة التحرير، والمبادرة الوطنية، مع مشاركة متلعثمة وفئوية وخجولة للجبهة الديمقراطية، ونصف مشاركة لحزب الشعب الذي حضر الجلسة الافتتاحية، وأصرّ على تغيير الدعوة وجدول الأعمال من دون أن يجد آذانا صاغية. وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى قيام رئيس السلطة محمود عباس بحملة ضغط وابتزاز على بعض الفصائل، للمشاركة من أجل إضفاء طابع وطني على الاجتماع، ما أدّى طبعاً إلى حدوث انقسامات واستقالات في صفوف من خضع لتلك الحملة، كما رأينا في الجبهة الديمقراطية، فقد استقال مثلاً الناطق باسم جناحها العسكري وحزب الشعب الذي شهد استقالاتٍ داخل المكتب السياسي نفسه، بعد الـ "لا" موقف أو نصف المشاركة على طريقة نصف قهوة ونصف شاي.
المجلس المركزي حلقة وسيطة بين منظمة التحرير والمجلس الوطني، لمحاسبة الإدارة التنفيذية للمنظمة، كما الاطمئنان على تنفيذ السياسات والبرامج
جاء جدول الأعمال فضفاضاً وعاماً، وتضمن تفعيل منظمة التحرير وتطويرها، وحماية المشروع الوطني والمقاومة الشعبية، في ما بدا أقرب إلى شعار لمهرجان سياسي منه إلى أجندة اجتماع برلماني وتشريعي. أما الحديث الإضافي عن المصالحة والعلاقة مع إسرائيل وأميركا، فقد كان دليلاً على التخبط والعشوائية، لا الرغبة في إجراء نقاش منهجي ومرتب.
لا شيء من هذا جرى فعلاً، وقصة المقاومة الشعبية كافية وحدها لنسف (أو فضح) خواء جدول الأعمال وهرائه، بل الاجتماع كله. وللتذكير فقط، أعلن عضو اللجنة المركزية لحركة فتح واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، عزام الأحمد، بنفسه ومنذ شهور طويلة، البيان الأول للقيادة الموحدة للمقاومة الشعبية الذي ظل حبراً على ورق، إذ بقيت هذه المقاومة يتيمة بدون حضور أو غطاء فصائلي، مع اهتمام بالعسكرة، وتخلٍّ أو عدم اكتراث، كما نرى في القدس وبرقة وبيتا.
لا بد من التذكير طبعاً بحقيقة أن المجلس المركزي حلقة وسيطة بين منظمة التحرير والمجلس الوطني، لمحاسبة الإدارة التنفيذية للمنظمة، كما الاطمئنان على تنفيذ السياسات والبرامج التي يضعها الوطني. ولكن، بدا هنا كأن المركزي يأخذ مكان الوطني، ليس فقط بملء الشواغر في اللجنة التنفيذية للمنظمة، وإنما باختيار هيئة رئاسة الوطني نفسه، في مخالفة فجّة وفظة وانتهاك لتراث العمل الوطني الفلسطيني الجامع وتاريخه.
وجاء البيان الختامي إنشائياً وخطابياً ومتذاكياً تماماً، وكرّر مواقف المجالس السابقة وقراراتها، لجهة المطالبة بوقف التنسيق الأمني، وتعليق العمل بالاتفاقيات مع إسرائيل، إلى حين وقف الاستيطان والاعتراف بالدولة الفلسطينية ضمن حدود 4 يونيو/ حزيران 1967، مع دعوة اللجنة الرباعية إلى الاجتماع للتحضير لمؤتمر دولي للسلام، علماً أن السلطة الضعيفة المستجدية المتوسلة، وحتى المتسولة، ليست في وضع يسمح لها بفرض الأجندة على أي طرف. وتحدّث البيان عن ترسيخ وتمتين ترتيبات المرحلة الانتقالية من السلطة إلى الدولة والاستقلال، على الرغم من أن هذا الأمر كان يجب أن يحدُث منذ عشرين عاماً تقريباً.
نحن أمام ترتيبات إدارية موصوفة للمستبدّين في خريفهم، تحديداً في ما يتعلق بابتلاع منظمة التحرير بوصفها مرجعية وإطارا قياديا أعلى للشعب الفلسطيني
القرارات نفسها اتُخذت منذ ثلاث سنوات، في اجتماع المجلس نفسه عام 2018، ورسمت معالمها حتى قبل ذلك في اجتماع 2015، وقصة تكليف قيادة السلطة (المنظمة) بتنفيذها وفق المصلحة الوطنية الفلسطينية العليا بدت ملغومةً ومعبرة تماماً عن الواقع، كما مصير البيان الختامي نفسه، كون السلطة غير قادرة، هذا إذا امتلكت الإرادة أصلاً لمواجهة الاحتلال وتنفيذ التوصيات السابقة.
في اليوم التالي لاجتماع المجلس، وحتى قبل صدور البيان الختامي رسميا، توغلت قوة خاصة تابعة لجيش الاحتلال في قلب مدينة نابلس في وضح النهار، وقتلت ثلاثة من مناضلي كتائب شهداء الأقصى، وانسحبت من دون ممانعة أو ردة فعل من الأجهزة الأمنية الفلسطينية. جريمة ما كانت لتحدث لولا التنسيق الأمني، ولو بمعناه الواسع. وهذا معطى إضافي كي لا يصدّق أحد أن قيادة السلطة جادّة في وقف التنسيق وتعليق العمل بالاتفاقيات مع إسرائيل.
بناء عليه، يمكن الاستنتاج أن الهدف الأساسي للاجتماع تمثل بتعيين أعضاء في اللجنة التنفيذية للمنظمة، تحديداً منصب أمين السر الشاغر منذ وفاة الراحل صائب عريقات، كما رئيس المجلس الوطني ونوابه.
تؤكد المعطيات السابقة مجتمعة أننا بصدد إعادة إنتاج لقيادة السلطة "المنظمة" الحالية، وإعطاء شرعية محلية لها، بعيداً عن الحسم الديمقراطي، ومن دون توافق داخلي، لا فتحاوي ولا وطني، اعتماداً على الدعم السياسي والمالي الخارجي، أميركياً كان أو حتى إسرائيلياً. وفي كل الأحوال، نحن أمام ترتيبات إدارية موصوفة للمستبدّين في خريفهم، تحديداً في ما يتعلق بابتلاع منظمة التحرير بوصفها مرجعية وإطارا قياديا أعلى للشعب الفلسطيني، لصالح سلطة "الحكم الذاتي المحدود"، حتى بثمن تكريس الانقسام السياسي والجغرافي بين حركتي فتح وحماس، والضفة الغربية وغزة، وقبل ذلك وبعده، الاستئثار والمكابرة والعناد والإصرار على المضي في النهج الفاشل، العاجز والقاصر عن استعادة الحقوق الوطنية الفلسطينية.