"الكوتا النسائية" في لبنان تبهْدلت
كان المقصود، في البداية أن تشارك المرأة في الحياة السياسية. أن تهتم بشؤون بلادها، أن تتابع، أو تفهم، أن تساهم بتقرير مصيرها ومصيره، بأن تملك الحق بالتصويت والترشّح للانتخابات، أن تنخرط في الأحزاب، أن يكون لها فيها دور حقيقي، لا مجرّد حشد. أن تُرفق تجربتها الجديدة هذه بالتعلّم والعمل. وكان هذا الطرح يتناقض جذرياً مع ذاك الذي أغلقَ عليها بين أربعة حيطان، وحدّد شروط حياتها ووظائفها، فكانت النساء بذلك نصف البشرية المعطّل .. إلى ما هناك من طروحات وتيارات، أثمرت في منشئها، أي الغرب، والكثير من الشرق الناهض، نساء قائدات أحزاب، رئيسات حكومات أو دول، ونائبات ورئيسات بلديات، صاحبات قرار بمعنى الكلمة.
كيف تلقَّى لبنان هذه الدعوة التي أصبحت عالمية، لا تناهضها علناً غير العقول النائمة؟ كيف "تلَبننَ" شعار مشاركة المرأة في السياسة؟ النصيب كان ضئيلاً في مطلع "التجاوب" مع الشعار. بضع نساء، معدودات، ورثن زوجاً أو أخاً، فصعدن إلى الوزارة أو البرلمان. ومع الوقت، "تطوّر" النظام السياسي اللبناني، فزاد تعطّله، وتشبّع جلده بالبثور والتقرحات. وساهمَ بتحويل الشعار الأول، مشاركة المرأة في السياسة، إلى آخر أكثر نفعاً، وصول النساء إلى مراكز القرار. وكان مفتاح هذا الشعار: "الكوتا النسائية" في مواقع السلطة كافة، خصوصاً العليا منها (وزيرة، نائبة، قاضية، سفيرة، مديرة عامة)، فأصبح الأمر روتينياً: كلّما تحرّكت مياه النظام الآسنة، وزارة، نيابة، تعيينات في مناصب الدولة... إلخ. كانت صرخات جاهزة، عالية، من هنا وهناك "نريد كوتا نسائية" أي نريد "الحصة النسائية"، لو تُرِجمت "كوتا" إلى اللغة العربية. و"الحصّة" واحد من أبواب الجنة لكلّ الذين سعوا إلى السلطة من الرجال، وهم الآن مستعدّون لتدمير البلد من أجلها.
هكذا، كان يجب الاستجابة، ليس فقط إلى تلك "الفكرة" النسائية المنتشرة، إنما أيضاً وأيضاً من أجل تقديم صورة "محترمة" للغرب وللعالم، أوراق اعتماد... عما بلغه لبنان من "تقدّم" و"حداثة"، بدليل صعود هذا الكمّ من النساء إلى مراكز "الدولة" العليا، فإطراء من كبار المموِّلين، في كلّ مناسبةٍ من مناسبات الصعود هذه، وانتفاخ صدور اللبنانيين فخراً، بأنّ "إنجازاً جديداً يسجّل للبنان" بهذا "العدد المرتفع من الوزيرات والنائبات..." إلخ. ومن بين "الإنجازات" أخيراً، زيادة عدد البرلمانيات إلى ستّ... من أصل 128 نائباً، وزيادة عدد الوزيرات إلى ستّ، أيضاً، من أصل عشرين وزيراً، فضلاً عن عدد القاضيات المعيّنات والسفيرات والمديرات العامات.
في البرلمان أولاً، وقانونه الانتخابي المفصّل على قياس زعماء الطوائف، احتفظت وريثتَان بالنيابة، وجاءت نائبتان تحت جناح أحد زعماء الطوائف، ونائبة تحت جناح آخر. وفَلتَتْ من الشَوْط نجمة إعلامية، عُرفت بصلاتها المتشعِّبة مع أكثر من زعيم طائفي، وهي الآن تلعب دور "المستقيلة" من البرلمان، بصفتها مستجيبةً لـ"نداء الثورة" وقريبة من طامحين آخرين إلى السلطة، ليسوا راضين عن حصّتهم فيها.
وباستثناء استقالة النائبة "الثورية"، وأناقة النائبة الوارثة لزوجها، وجمالها، لم نسمع عن أولئك البرلمانيات شيئاً ملفتاً، أو كلاماً عن حقوق النساء اللبنانيات، ولا تلميحاً أو تعاطفاً أو استجابة، وإن شكلية، لقضاياهن الملّحة: مثل العنف بأشكاله، المتزايدة بإزائهن (الآن خصوصاً مع الوباء)، أو حقوق تمرير الجنسية اللبنانية لأبناء وأزواج المتزوجات من غير لبنانيين، أو قضايا التظلّم المرفوعة في المحاكم الشرعية، خصوصاً حقوق الأم بحضانة أطفالها، أو الفقر المدْقع الذي تنال منه النساء أضعافاً مما يناله الرجال، سواء كنّ عاطلات عن العمل، أو على ذمة عائل... ربما، سكْرة السلطة، أو قلّة المعرفة، أنساهن أنّهن مدينات لقضايا المرأة بالذات، فلولاها، لما بلغنَ كلّ هذا "المجد".
في الموقع الأدنى من الهرم، تأتي القاضيات والسفيرات والمديرات العامات. وجميعهن صعدنَ إلى رتبهن بفضل أجنحة زعيمهن الطائفي
أما في السياسة، فلا تسأل: استتباع كامل. لم تُعرف ملاحظة، أو تنْهيدة، أو تلميح، من أولئك النساء الخمس تجاه ما يسلكه "عرّابهن" من مسالك ومهالك، إلى حدّ أنّنا نسينا أسماءهن ووجودهن.
لكن، بلى... بلى، عُرِفت اثنتان منهن بالنوادر. ومن المصادفات غير السعيدة أنّهما تنْتميان إلى زعيم طائفي واحد. الأولى اشتهرت بهفواتها "الدينية"، إذ إنّها دخنت السيجارة في عزّ أيام رمضان، وتناولت القربان في قدّاس. وثارت عليها أصوات متزمِّتة، فزارت المفتي، واستمعت إلى عظة من أحد الشيوخ، وأعلنت الشهادة (كأنّها تدخل الإسلام لأول مرة)، وأنّها مسلمة مؤمنة، وتؤمن بشريعة الإسلام. ولم يكن قصدها... إلخ. وبرزت النائبة الثانية بـ"تويتاتها" الطائفية، والزبائنية (تكرّر الإعلان أنّها ستوزع الطعام والمال لناخبيها المتدحْرجين بسرعة نحو الفقر). وهي، بعد انفجار المرفأ "قدّمت استقالتها" هي أيضاً. لكنّ هذه الاستقالة لم تدُم، إذ نهَرها عرّابها، فعادت عنها "سكَّيتي...". وبعدما أعلنت عن "تعليق" مشاركتها في مجلس النواب، طارت إلى إحدى جامعات الخليج، لتتسلم منصب عميدة إدارة الأعمال في إحدى كلياتها، ما جعلها تخرق النظام الداخلي للبرلمان، وتضرب المادة 44 منه، الذي لا يجيز لها، باعتبارها نائبة، الغياب عن أنشطتها البرلمانية، ومنها أنشطة اللجان: حيث ترأس لجنة التنمية المستدامة، فوق أنها عضو في ثلاث لجان أساسية، المال والموازنة، والصحة العامة والعمل والشؤون الاجتماعية، ولجنة تكنولوجيا المعلومات.
أما الوزيرات الست في الحكومة الأخيرة، وقد هلّل لهن القوم: "لأول مرة... كلّ أولئك النساء!"، "إنجاز في حكومة الإنجازات"... لم نتعرف إلّا على الوجه الجميل لوزيرة الإعلام، من بينهن، فيما استقالتها أيضاً طواها النسيان، إثر تدخّل عرّابها أيضاً وأيضاً. وحُسن استخدام وزارتها لعراضاتها في الكلام المرسل و"نيات" إصلاح في حكومة "الإنجازات". ووزيرة لحقيبة خطيرة، الدفاع "أول امرأة تتولى هذه الحقيبة الخطيرة!" (إعجاب)، زوجة أحد المرشّحين السابقين لرئاسة الحكومة، تراوغ وتلعب لعبة انتفاض قصيرة تعود عنها سريعاً. ووزيرة عدل عالقة بين رصانتها الجامعية ومتطلّبات عرّابها الآخر، فالمطلوب منها وضع ملْمس "النسبية" على هذه الرصانة. الوزيرات الثلاث الأخريات، سمعنا بأسمائهن عند تشكيل الوزارة، لكنّنا نسيناهن، ونسينا وجوههن. لا نعرف شيئاً عن نشاطهن، سوى أنّ كلّاً منهن تركب السيارة الفاخرة برقم الوزارة، والسائق والراتب وامتيازات أخرى غير جديرة بالذكر.
جموح غير عادي للسلطة، شَرَهٌ لها، لدى هذه الشريحة من النساء، المستفيدات من شعار "الكوتا النسائية"
في الموقع الأدنى من الهرم، تأتي القاضيات والسفيرات والمديرات العامات. وجميعهن صعدنَ إلى رتبهن بفضل أجنحة زعيمهن الطائفي. بعضهن "ورثنَ" عن أبيهن أو زوجهن أو أخيهن، وغالباً إرثاً يتداخل مع الولاء للزعيم الطائفي، فحظينَ بأكثر مما تيسّر. والأخريات جئن "من الشعب" بكفاءة علمية، وأيضاً مع ولاء مطلق للزعيم الطائفي، فلا واحدة من أولئك المحظوظات يمكنها القول إنّها مستقلة عن الزعيم الذي عيّنها، أو عن شبكة العلاقات التي أوصلتها إلى هذا الزعيم.
الآن، ثمة من يذهبنَ بهذا "الدور" إلى أبعد حدوده، فيتماهينَ مع الزعيم، لتكون الواحدة منهن نسخةً مطلوبة عنه، وإن كانت لا تشبهه، لكنّه المقتضى (هل ترمي المقتضى وتخرج من هذه الجنّة؟)، فكانت السفيرة الفاسدة، والمديرة العامة الأفسد، والمقدّم (رتبة ضابط قائد) الشريرة قريبة نائب، والتي زجّت فناناً في السجن ظلماً وعدواناً... والمستور أعظم. ثم موقعة القاضية غادة عون أخيراً، والتي أثارت اهتماماً فائقاً نظراً إلى قوتها الإعلامية وللمشهد الجديد الذي اخترعته، وفيه من التشويق المأساوي ما يلزمكَ بمتابعة تفاصيله، فخلف رئيس الجمهورية، وهو نموذجها الأعلى، وبالهتافات التي تمجّدهما، هي والرئيس، والخلع والكسر اللذان قرّباها من الشبّيحة، والكلمات الفرنسية التي نطقت بها لتقوية حجّتها بأنّها إنّما تقوم بذلك كلّه لأنّها "متعاطفة" مع آلام الشعب اللبناني .. ذهبت القاضية التي سميت "متمرّدة" إلى أبعد ما يبلغه تهالك القضاء في لبنان، بعدما كان شعار الثورة الذي يبدو متواضعاً الآن "إصلاح" هذا القضاء من الفاسدين.
في أثناء استجوابها في مجلس القضاء الأعلى، بشأن سلوكياتها، ولماذا كذا وكيت، أجابت: "أعاني انفعالات عصبية وأحياناً لا أسيطر على انفعالاتي". وسواء كانت هذه القاضية صادقةً أو متملّصة، فإنّها قدمت أثمن ما يمكن أن يتمناه دعاة حرمان المرأة من العمل في السياسة وقولهم المأثور: "النساء ناقصات عقول. ولا يعملن إلًا وفق عواطفهن". بل تعيدنا كلمات القاضية وسلوكها إلى النموذج الفرويدي للهستيريا، ويدّعي فيها أنّها، أي الهستيريا، تقتصر على النساء.
النظام أفسدَ كل شيء، حتى الخصال الأنثوية، وحوّل حصة النساء في السلطة إلى مجرد استجابة غير مكلفة لالتقاط الصورة
نعم، ثمّة عاطفة لدى هذه الفئة "الواصلة" من النساء. عاطفة هستيرية، بالهادئ منها والصاخب. جموح غير عادي للسلطة، شَرَهٌ لها، لدى هذه الشريحة من النساء، المستفيدات من شعار "الكوتا النسائية". ولا يمكن أن يكنّ جاهلات بدورة النظام السياسي المهترئة، بفساد عرّابيهن. وهنّ من عمق نسيجه. وكونهن نساء، لا يضفنَ عذوبة أو مرونة أو حدْساً أو عطاء... وهي صفات يُفترض أن تنضح من النساء، وإن بدرجات، لكنّ النظام أفسدَ كل شيء، حتى الخصال الأنثوية، وحوّل حصة النساء في السلطة إلى مجرد استجابة غير مكلفة لالتقاط الصورة، طالما أنّه لن يأتي إلّا بنساءٍ مؤهلاتٍ لاكتساب شراسة الرجال السياسية، ويكون لهن هذا الاستعداد منذ البدء، سواء ظهر استعدادهن هذا، أو لعبت به صاحبته لعبة التقية الأنثوية.