"القاهرة: كابول" .. النجاح والفشل معاً
اجتمع في مسلسل "القاهرة: كابول" بعضٌ طيبٌ من قوة الدراما في النص، وكثيرٌ من التشويق في حكاياته، وتميزٌ في أداء فنانين شاركوا فيه. وجعله هذا كله، وغيره، من أفضل نتاجات موسم الدراما الرمضاني أخيرا. أحرز مشاهداتٍ عالية، وحظي بتقريظٍ واسعٍ من مشاهديه وبعض الصحافة. يجد صاحب هذه الكلمات جوانب فيه نابهةً، وجاذبةً، تستحق الثناء. كما يراه قد اشتمل على مواطن اعتلال، جعلت، ربما، مقادير الفشل فيه ظاهرةً، فخصمت من مواطن الجودة فيه، سيما في واحدٍ من مسارات إحدى حكاياته. وربما يعود اجتماع الأمرين إلى ما يجوز تسميته "استعباط" المشاهدين، وهذا باهظ الحضور في أغلب الدراما العربية، عندما يفتعل كاتب السيناريو (والقصة أحيانا)، بالترتيب مع المخرج (وجهة الإنتاج أحيانا) وقائع تفتقد طبيعيّتَها، غير مقنعة، ناشزةً في سياق العمل عموما. ومؤسفٌ أن شغلا دراميا متقنا في مسلسلاتٍ ناجحةٍ كثيرة، تتوفّر على اجتهاداتٍ ظاهرةٍ في الإخراج والأداء والحكاية، يضربه استغفال المشاهدين. ولمّا كان "القاهرة:كابول" معنيا، في واحدٍ من مشاغله، بتظهير التضادّ بين الإرهاب والتطرّف (الإسلامي) وناسهما من جهة والسماحة والاعتدال وناسهما من جهة ثانية، فإنه أجاد في هذا، إلى حدٍّ ملحوظ. وأتقن السيناريست وكاتب القصة والحوار، عبد الرحيم كمال، مقابلاتٍ غير قليلةٍ بين أولئك وهؤلاء. وثار على النمطيات إيّاها، لمّا قدّم شخصية الإرهابي المنغلق مركّبةً وذات أبعاد متعدّدة، متعلما ومثقفا، بل وصاحب نزوع رومانسي في جوانياته، وشاعرا أحيانا، وقاتلا ومخادعا. وقد أدّى طارق لطفي الدور بكفاءة، غير أنه جعل هذا الشخص، وهو في كهوف أفغانستان، عميلا مباشرا للأميركان، ينفذ مخططا لهم، محميا منهم، ليس فقط عندما يتمكّنون منه ويستنطقونه ويعذّبونه، ثم يجنّدونه، وهو خليفة المسلمين، أبو منصور المصري، بل قبل ذلك عندما يتيحون له السفر من تلك الكهوف إلى أوروبا بحرية.
لكاتب الدراما أن يبتدع ما شاء من وقائع، وأن يبني أبطالَه من متخيّله، من دون اعتناءٍ بحقيقة وجودهم بما هم عليه على الشاشة، غير أن هذا لا يجيز له أن يصنع وقائع لا تسندها شواهد، إذا كانت مستوحاةً من أحداثٍ معلومة، ففي هذا لا يفتئت على الحقائق، وإنما على الفن نفسه. ليس الخليفة أبو منصور المصري، في مسلسل حسام علي (المخرج) وعبد الرحيم كمال، في حاجةٍ إلى تقديمه للمشاهدين عميلا للأميركيين، وقد أنجز السيناريو له سيرةً أبانت ارتحالات مزاجه مبكّرا إلى التطرّف، ودلّت على مناطق الفرادة الماثلة في شخصه، وجعلته زعيما للمجاهدين هناك في أفغانستان، ولم يكن في مصر قد تورّع عن تدبير قتل ابن خاله، ثم صديق طفولته وشبابه الأول في أوروبا، ثم زوجته في كابول.. كان هذا كله متّسقا مع الإيقاع العام لمجرى حكايته في المسلسل، وهي واحدةٌ من حكاياتٍ، بعضها شائقٌ حقا، تنوّعت مرسلاتُها، وتعدّدت في هذا العمل الدرامي وأغنتْه، سيما وأن السيناريو والإخراج نجحا كثيرا في ربط خيوط التلاقي بين هذه الحكايات وفي افتراقها أيضا.
ليست جديدةً صداقةُ شخصياتٍ منذ الطفولة، وسكناهم في عمارة واحدة، مع تصوير اختلافاتٍ في ميولهم مبكّرا، ليكون هذا توطئةً تؤشّر إلى ما صاروا عليه تاليا. اختار كاتب "القاهرة: كابول" هذه الثيمة، المطروقة، لكنه نزع عنها "تقليديّتها"، عندما أخذ واحدا من أربعة رفاق في الصبا إلى أفغانستان، ليصبح "خليفة" للمسلمين، وعندما قتل آخر، سينمائيا، برصاص جماعة هذا. وجعل الثالث (فتحي عبد الوهاب) رجل إعلامٍ منتفعا ومهنيا ومجتهدا ومحبّا للمال، والرابع (خالد الصاوي) رجل أمن ومنحازا للعدالة، مستقرّا أسريا، متباسطا مع الجميع .. وإلى هؤلاء، ثمّة الشابّة التي أحبّها ابن عمّتها، الخليفة تاليا، وكانت عنوان البساطة والسماحة، والحدّة والجدّية، وقد برعت كثيرا حنان مطاوع في تأدية هذه الشخصية. .. كهفٌ هناك في أفغانستان لشيوخٍ متطرّفين يؤولون الإسلام دين عنفٍ وقتالٍ وقتل، ثم أرضٌ فسيحة لمقام الخليفة وحرّاسه الذين دسّت بينهم المخابرات المصرية عميلين لها، وحارةٌ شعبية في القاهرة يظلّلها التوادد بين ناسها وشبابها، البسطاء الطامحين الحالمين، والذين تحاول أفكارٌ طائفيةٌ وظلاميةٌ أن تتسرّب إليها، يطوّقها مدرس التاريخ القديم (نبيل الحلفاوي) بعظاتٍ ظلت حاضرة طوال حلقات المسلسل الذي توفر على أسباب الانجذاب إليه، بالمفارقات الكثيرة فيه، والالتفات إلى تفاصيل كل شخصية. وأخفق لما ثرثر في غير شأن، وصنع حوادثَ استعبَطنا فيها، مثل الحيلة على الخليفة لاستقدامه إلى مصر، فتوازى نجاحٌ كثيرٌ فيه مع فشلٍ غير قليل.