"العدالة والتنمية" المغربي بين الخطاب والممارسة
مع تجميد عضويته في حزبه الحاكم في المغرب، العدالة والتنمية، احتجاجا على المصادقة على مشروع تقنين القنب الهندي، يكون الأمين العام السابق للحزب، عبد الإله بنكيران، قد أبرز، في واضحة النهار، عمق الأزمة التي يعيشها الحزب، ذو المرجعية الإسلامية، منذ أكثر من ثلاث سنوات. ولئن كان الحزب قد حافظ ظاهريا على وحدته التنظيمية، فهو داخليا يعيش تمزّقا فكريا، فلا الحوار الوطني الذي تزْعُم قيادة الحزب أنه كان ناجحا أفلح في تضميد الجراح الداخلية، ولا اجتماعات المجلس الوطني المتتالية نجحت في الخروج برأي موحد، يشكل خريطة طريق متفقاً عليها وعلى تطبيقها وتنزيلها، ما أعطى الانطباع لدى العامة والخاصة بأن الحزب أضحى يعيش مرحلةً أصبح فيها التذبذب سيد الموقف.
منذ وصوله إلى السلطة، بفضل الربيع العربي الذي لولاه لظل الحزب في المعارضة، ولما حلم بالحصول على مناصب وزارية، بل برئاسة الحكومة، تتأرجح مواقف حزب العدالة والتنمية المغربي بين منطق الدولة ومنطق الحزب السياسي الذي صوّت على برامجه ثلث المغاربة، لكن المتابع للحزب ومواقفه يظهر له جليا أن الحزب لم يكفه اعتداله للتأقلم مع السلطة، بل اضطر، في أحيان كثيرة، إلى التنازل عن بعض القضايا الجوهرية الكبرى التي كان يحمل مشعلها، عندما كان في المعارضة.
دواعي الحكم أو مصالح الدولة اعتبار أول في سلوك الحكومات ليست بدعة أو جديدة في عالم السياسة، فهي نظرية قديمة، غرضها تبرير عمل الحكام
قد يقول قائل إن للسلطة ضروريات وحاجيات لا يطلع عليها من كان بعيدا عنها، وإن الدخول إلى المربع الذهبي للحكم يجعل المرء يعدل من مواقفه، ويصبح أكثر واقعية، خصوصا بعد مواجهته الواقع الميداني، وهو ما حصل بالضبط، حيث تم تسويغ تنازلاتٍ عديدة وتراجعات كثيرة، باسم تقديم مصلحة الدولة على مصلحة الحزب، وباسم الحفاظ على الائتلاف الحكومي، ومراعاة الأحزاب السياسية، وباسم البراغماتية السياسية، وباسم الضرورة الملحّة. وإذا تعذر تقديم كل هذه الأعذار، فسيكون باسم عدم الدخول في مواجهةٍ مع الدولة العميقة، أو التسبب في إحراج لملك البلاد الذي يعرف، أولا وأخيرا، المصلحة العليا للوطن، وهكذا يقال.
الفكرة القائلة إن دواعي الحكم أو مصالح الدولة هي اعتبار أول في سلوك الحكومات ليست بدعة أو جديدة في عالم السياسة، فهي نظرية قديمة، غرضها تبرير عمل الحكام، أيا كان شكل النظام السياسي، وهدفها تعليل الأسباب ما دام الهدف نبيلا، وهو ضمان سيادة الدولة "الرشيدة" واستقرارها ووحدتها واستدامة الأمن وطلب الازدهار الاقتصادي والتنمية في كل المجالات. وقد ساد هذا الاعتبار عند قادة حزب العدالة والتنمية، حتى أصبح يبرّر ما لا يبرَّر، خصوصا أنه أحيط بهالةٍ مبالغ فيها، وكأن التوضيح عند قاعدة الحزب ومناضليه سيفشي سرا من أسرار الدولة، مطبقين بذلك توصية العباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله، لما رأى تقديم الخليفة عمر له، فقال له: "إني موصيك بخلال أربع: لا تفشين له سرا، ولا يجربن عليك كذبا، ولا تطو عنه نصيحة، ولا تغتابن عنده أحدا". أو كأننا بأبي سفيان، وهو يخاطب معاوية، وتقريبا في الموقف نفسه: "يا بُنيّ، لقد استعملك هذا الرجل، فاعمل بما وافقه، أحببت ذلك أم كرهته"، هذه الوصية هي ديدن قادة الحزب الإسلامي، وكأنها مكتوبة على جباههم.
يعارض "العدالة والتنمية" التطبيع بأعتى الكلمات، ثم يوقع رئيسه على وثيقة عودة العلاقات مع الكيان الصهيوني
عملت قيادة "العدالة والتنمية" على ترطيب الخواطر وتهدئة النفوس وإعطاء المسكنات وتقريب أشرس المعارضين عوض مجابهة المشكلات ومواجهة المعضلات، بالنظر في أسباب المرض لاستئصاله من جذوره. راهنت على الإنجازات الحكومية وتسويق حصيلتها، رجاء إسكات صوت المعارضة الداخلية، متحجّجة بما ذكر أعلاه من المصلحة العليا للوطن ومنطق الدولة. وعلى الرغم من هذا، وجدت نفسها وجها لوجه أمام أولئك الذين يتهمونها بالاستسلام والانبطاح، ولم يجدوا أنفسهم في هذا المسار، فهو مسارٌ تكنوقراطي، إذا لم تنكر نتائجه من حيث التدبير الاجتماعي والاقتصادي، فهو يبقى سياسيا من دون طعم أو لون، فما هي القيمة المضافة التي قدّمها الحزب بمرجعيته، وماذا بصم للتاريخ، استنادا إلى مبادئه، وماذا ترك للتجربة من ميزةٍ تفرّقه عن منافسيه؟
وقع انفصام بين القول والفعل، بين الخطاب والممارسة، بين الشعارات والتطبيقات، فالحزب يعارض التطبيع بأعتى الكلمات، ويوقع رئيسه على وثيقة عودة العلاقات مع الكيان الصهيوني. يدافع الحزب عن اللغة العربية، وتصدر حكومته قانون الإطار الذي يُرجع بقوة اللغة الفرنسية إلى واجهة التعليم. ويتلكأ الحزب في اتخاذ موقف واضح من تقنين زراعة القنّب الهندي (الكيف)، لكنه يصادق في المجلس الحكومي عليه، وهكذا دواليك.
لم تملك القيادة الحالية لحزب العدالة والتنمية الشجاعة اللازمة والجرأة الكافية للتوضيح والتفسير داخليا، ناهيك عن الحديث إلى الناخب المغربي الذي صوّت لهذا الحزب مطمئنا فخاب أمله، وهو الناخب الذي صوّت لا لكفاءة الحزب الإدارية أو التدبيرية، وإنما للدفاع عن المرجعية والهوية، ولمحاربة الاستبداد والفساد، ولاستكمال مسار النضال والديمقراطية، ولتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية، فرجع الناخب بخفي حنين. كان حريّا بهذه القيادة الخروج بخطاب واضح يزيل اللُّبس ويقشع الغمام، ويلائم بين المواقف الحكومية وخطاب مستهلك أصبح مجرد كلام، لتحافظ على لحمة الحزب، ولتطمئن الناخب، ولتقول كلمة الفصل بين ما هو مبدئي استراتيجي وما هو مرحلي تكتيكي. لكنها لم تفعل، ورُبّ ملوم لا ذنب له.