"الجنائية الدولية" .. هل حانت لحظة محاسبة إسرائيل؟
تسلّمت إسرائيل والسلطة الفلسطينية، في التاسع من الشهر الماضي (مارس/ آذار)، رسالةً من المحكمة الجنائية الدولية توضّح فيها نطاق تحقيقها الذي قرّرت أن تطلقه بشأن الحالة في فلسطين، ويشمل: حرب إسرائيل عام 2014 على غزة، سياسة الاستيطان الإسرائيلية، واحتجاجات مسيرة العودة الكبرى عام 2018 في غزة. بدا أن هناك تفاؤلا حذرا في إمكانية أن تعاقب إسرائيل على جرائمها بحق الشعب الفلسطيني، وألا تفلت هذه المرّة من العقاب. هل نحن فعلا أمام فرصة من هذا النوع؟
على الرغم من معارضة إسرائيل والولايات المتحدة، انضمّت فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية، ولم تثنها التهديدات والضغوط الاقتصادية والديبلوماسية عن رفع دعوى ضد إسرائيل بشأن جرائم الأخيرة في الأراضي المحتلة. استمرت إسرائيل بالتشهير بالمحكمة، واتهامها بالخضوع للتسييس، وبـ "معاداة السامية"، ورفضت اختصاصها، وحاولت تعطيل الديبلوماسية الفلسطينية. أما إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، ففرضت عقوباتٍ غير مسبوقة على مسؤولي المحكمة (رفعتها الإدارة الحالية)، واستمرّت بالضغط، نيابة عن إسرائيل، على دول أعضاء في المحكمة يؤيدون إجراء التحقيق، غير أن الإجراءات القانونية مضت لصالح الطرف الفلسطيني، ففي 30 إبريل/ نيسان من العام الماضي (2020) تشاورت المدّعي العام (السابقة) للمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، مع الدائرة التمهيدية في المحكمة، بشأن ما إذا كان للمحكمة الجنائية الدولية اختصاص في التحقيق بشبهة جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبعد أشهر عشر، جاء الردّ بالإيجاب، وتقرّر فتح تحقيق رسمي. وقبل انتهاء مهلة الـ 30 يوما التي منحتها المحكمة للرد على رسالتها، قرّرت إسرائيل عدم التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، وأعلن بيان صدر عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في الثامن من إبريل/ نيسان الجاري، أن إسرائيل ستبلغ المحكمة رفضها الادّعاء بارتكابها جرائم حرب، وأن ليس للمحكمة سلطة لإجراء أي تحقيق في الأراضي المحتلة.
رفضت الولايات المتحدة وإسرائيل المصادقة على قانون روما الأساسي. وطوال عقود، اصطدمت جهود لجم إسرائيل أو معاقبتها بحق النقض (الفيتو) الأميركي
كان في وسع إسرائيل أن تناور بطلب التأجيل عبر تفصيل جهودها الخاصة للتحقيق في جرائم الحرب تلك، ومحاسبة المسؤولين عنها من الإسرائيليين، والذي من شأنه أن يجعل المحكمة تكتفي بوضع تلك الجهود تحت الإشراف الدوري أو تلغي التحقيق. وقد سبق لإسرائيل أن التفّت على لجان التحقيق الدولية، عبر تحقيقات داخلية شكلية تنتهي بإغلاق ملفات التحقيق، وتبرئة جنودها من التهم (كما حصل على سبيل المثال العام 2002 في جنين، وفي الحرب على غزة 2008 - 2009، وتلك التي تكررت العام 2014). لكن ذلك إن كان ممكنا في حالتي مسيرة العودة، والحرب على غزة، فسيكون متعذّرا في حالة المستوطنات، خصوصا أن التوسّع الاستيطاني الذي أصبح سياسة رسمية، يشكّل، جغرافيا وديمغرافيا، انتهاكا واضحا للقانون الدولي، وجريمة حرب وفق قانون المحكمة الجنائية. هذه المرّة إسرائيل لم تفاوض، وقرّرت، على ما يبدو، أن تحسم الأمر مع المحكمة، بشكل نهائي.
رفضت الولايات المتحدة وإسرائيل المصادقة على قانون روما الأساسي. وطوال عقود، اصطدمت جهود لجم إسرائيل أو معاقبتها بحق النقض (الفيتو) الأميركي، الذي باتت إسرائيل تعتبره بمثابة حقّ مكتسب، لكن المحكمة الجنائية الدولية تشكّل آلية محاسبة دائمة، وإسرائيل قلقة جدّيا من أن يكون زمن الإفلات من العقاب قد ولّى، وتأخذ إسرائيل على محمل الجد احتمالية اعتقال مواطنيها على أراضي دولة عضو في المحكمة الجنائية. وقد أعدّت العام الماضي، وفق وسائل إعلام إسرائيلية، قائمة من شخصيات إسرائيلية، يحتمل أن تحقق معهم المحكمة، أو معرّضين للاعتقال مستقبلا. وفي حين أن الولايات المتحدة قد فرضت اتفاقيات ثنائية عديدة على دول أعضاء في المحكمة، تتلقى مساعدات أميركية، تضمن عدم اعتقال تلك الدول مواطنين أميركيين بطلب من الجنائية الدولية، فإنه ليس لدى إسرائيل مثل تلك الاتفاقيات.
منذ قيامها العام 1948، تدّعي إسرائيل أنه لم يكن لديها أي سياسةٍ متعمّدةٍ ومخططةٍ مسبقا لترحيل الفلسطينيين، أو ممارسة أي نوع من التطهير العرقي بحقّهم
ضمّت الفقرة الرابعة من المادة 85 من البروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيف الأربع، إلى الأعمال التي تُرتكَب "بشكل متعمد"، وتعدّ انتهاكات جسيمة لاتفاقيات جنيف، والبروتوكول الملحق بها "نقل دولة الاحتلال بعض سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها، أو ترحيل أو نقل كل أو بعض سكان الأراضي المحتلة داخل نطاق تلك الأراضي أو خارجها". منذ قيامها العام 1948، تدّعي إسرائيل أنه لم يكن لديها أي سياسةٍ متعمّدةٍ ومخططةٍ مسبقا لترحيل الفلسطينيين، أو ممارسة أي نوع من التطهير العرقي بحقّهم، وأن ما حدث كان نتاجا طبيعيا للصراع العسكري الذي يخلق، في أي زمان ومكان، كوارث إنسانية، وتحمّل المسؤولية عن ترحيل الفلسطينيين عن أراضيهم للدول العربية التي رفضت قرار التقسيم، وشنّت حربا عليها، ودعت السكان الفلسطينيين، عبر الإذاعات ومكبّرات الصوت، إلى مغادرة أماكن سكنهم من أجل إفساح المجال لحسم الحرب والانتصار عسكريا. ويغلق النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الباب أمام تخريجات مماثلة، حين يستبدل عبارة "بشكل مباشر أو غير مباشر" بعبارة "بشكل متعمّد"، فيحدّد أركان جريمة الحرب المذكورة بأنها "نقل سلطة الاحتلال، بشكل مباشر أو غير مباشر، أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها، أو إبعاد أو نقل كل أو أجزاء من سكان الأرض المحتلة داخل هذه الأرض أو خارجها"، ما يحسم الأمر بشأن أعمال الاستيطان في الأرضي المحتلة العام 1976 بوصفها جرائم حرب.
لا تكفي المحكمة وحدها، بدون توافر إرادة دولية فاعلة، لمحاسبة إسرائيل، ولجم جرائمها المستمرّة بحكم طبيعتها كيانا استيطانيا احتلاليا وإحلاليا
بانضمامها عام 2015 إلى المحكمة الجنائية الدولية، ومعاهدات دولية أخرى، عزّزت السلطة الوطنية موقف فلسطين دوليا، وقطعت شوطا على طريقٍ طويل للدفع باتجاه فرض الرقابة الدولية على السلوك الإسرائيلي الذي ينتهك القانون الدولي، سيما فيما يتعلق بالمستوطنات، وباتجاه وقف المحاولات الإسرائيلية المستمرة الناجحة، حتى الآن، في التهرّب من المساءلة والعقاب (لا يمكن هنا إغفال جهود لجان حقوقية فلسطينية ضغطت بهذا الاتجاه، وجمعت الأدلة والوثائق). لكن هل فعلا تشكّل المحكمة تلك الفرصة التاريخية التي تضع حدا للجرائم الإسرائيلية المستمرة؟ نتمنى ذلك، لكن المحكمة لا تضم، علاوة على الولايات المتحدة، دولا عظمى، مثل الصين التي لا تزال تعترض على المحكمة، وترى فيها انتهاكا للسيادة الوطنية. أما روسيا، فقد انسحبت منها عام 2016 بعد خشيتها من تحقيق بشأن جرائم حرب ارتكبها جنودها في سورية، وهي مستمرّة في اتهام المحكمة بعدم المهنية. وأخيرا، انضمّت بريطانيا إلى الأصوات المعارضة إجراء التحقيق، ورفضت ولاية المحكمة على الأفراد الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، بحجّة أن إسرائيل ليست طرفا في نظام روما الأساسي، وأن فلسطين ليست طرفا ذا سيادة، كما أن المحكمة لا تمتلك صلاحية إجراء اعتقالات، وليس لها سلطة لاحتجاز الأشخاص. قد لا تكفي المحكمة وحدها، بدون توافر إرادة دولية فاعلة، لمحاسبة إسرائيل، ولجم جرائمها المستمرّة بحكم طبيعتها كيانا استيطانيا احتلاليا وإحلاليا.