جرائم منزلية طريفة

04 فبراير 2015
جرائم طريفة (Getty)
+ الخط -
حين وطأت قدم والدي أوّل درجة من سلّم البناية، حيث بيتنا في حيّ السلم، وسمعنا كحّته المعهودة، قلنا إنّه عاد من الزيارة المفترضة عند عّمتي، هو ووالدتي، وبدأ بعد ذلك التخبّط فيما بيننا، إخوتي وأنا، بعد ارتكابنا واحدة من "الكبائر" وقتها.

كان والدي غريب الطباع، سريع الانفعال، ينسى كلّ ما يقوله عن عاطفته وعن قلبه الرقيق في لحظات انفعاله، ليتحوّل إلى الوالد القاسي والمربّي الصارم. فهو القلق دائماً على أولاده من الانجراف نحو المنزلقات والفشل.

جمع تناقضات كثيرة في حياته وفي تربيتنا، فكان صاحب عقل عنيد ومتمرّد، لكنّه يرفض ويكره المواجهة، كثير المنطق والحكمة ويتفادى أيّ نقاش، ينتمي إلى فكر شجاع، ولا أذكر إلا خوفه من كل شيء، ينتقد قسوة الآخرين على أولادهم ويمارسها علينا.

لعلّ فترة طفولتنا المتزامنة مع الحرب الأهلية، مروراً بالاجتياح الإسرائيلي وتداعياته، وما رافق هذا كلّه من ظروف اجتماعية وأمنية واقتصادية سيئة، إضافة إلى مزاجيته العالية، جعلت والدي دائم التوتر والقلق، حتّى وصل به الأمر إلى وضع قوانين تفصيلية لحياتنا اليومية.

كان علينا أن نلتزم الصمت ما بين الساعة الثالثة والنصف حتّى الخامسة من بعد ظهر كلّ يوم. فهو وقت قيلولته على أريكة في غرفة الجلوس، حيث نجتمع وندرس ونأكل ونستقبل أصدقاءً وضيوفاً ونشاهد التلفزيون... كلّ هذا، وينبغي علينا عدم إزعاجه بإصدار أدنى صوت قد يوقظه، مستخدماً تعبيره اليومي: "ما بدي اسمع، لا حسّ ولا حسيس ولا إنْس ولا أنيس".

مع ذلك أكاد أجزم بأنه ندر أن مرّ يوم واحد من دون أن توقظه صرخة أو شجار أو انقلاب لأثاث أو سقوط شيء من مكانه، فيقوم غاضباً، ليفرغ كلّ ما راكمه يومه من تعب في العمل أو همّ فاتورة استحقّت أو قلق من نشرة أخبار.

بدأت المؤامرة حين قرّر أبي وأمي زيارة عمتي، التي يبعد منزلها عن منزلنا في الحيّ نحو 10 دقائق سيراً على الأقدام، في يوم حارّ من صيف عام 1979.

فقررت أنا وإخوتي أن نقوم بانتهاك القواعد المنزلية، وكسر واحد من أكثر القوانين دقّة في بيتنا، وهو: منعنا من ابتياع البوظة (المثلّجات). تجرّأنا على أن نبتاع البوظة "الآيس كريم"، من محل للحلويات في زاروب مجاور. لأنّ البوظة، برأي الأهل، هي واحدة من أكثر المسبّبات للأمراض، نظراً لشدّة برودتها، وكونها تحمل الكثير من الجراثيم، خصوصاً إذا تمّ شراؤها من المحلات الشعبية.

قرارنا هذا جاء بعد نقاش طويل لهذا الخرق الكبير ودرس احتمالات تداعياته إذا ما انفضح أمرنا. ومع تطمينات متكرّرة من جهة أختنا الوحيدة، والتي لم تبلغ 11 عاماً بعد، حيث كانت على ثقة كبيرة في عدم تسريب أيّ خبر عن فعلتنا، شرط إتمام العملية بالطريقة المدروسة.

ما إن مضى والداي، حتى جاء أخي الأكبر، وعمره 14 عاماً، يكبرني بستّ سنوات، ليوكلني بمهمّة الذهاب لشراء البوظة. وقد وقع الاختيار عليّ؛ لأنّني غير مشارك في التمويل، فوضعي هو الأسوأ اقتصادياً بين إخوتي، فرضيت كنوع من أنواع التعويض عن عجزي المادي.

استلمت النقود، وبسرعة البرق مضيت. دقائق وعدت حاملاً ثلاثة قرون من البوظة ووزّعتها علينا.

كانت الصدمة، عندما سمعنا كحّة والدي المعروفة، صاعداً على درج البيت. عرفنا لاحقاّ أنّ عمتي لم تكن في بيتها... فعادا على الفور. كان ذلك قبل الهاتف وقبل أن يصير ضرورياً الاتصال قبل زيارة منزل أحدهم.

في ثوانٍ قليلة بدأت حالة من الهستيريا تنتابنا، وبدأ كلّ واحد منّا يبحث عن طريقة يتفادى من خلالها ورطته من جهة، وعدم خسارة معشوقته من جهة أخرى.

قبل أن تتذوق شقيقتي بوظتها، قرّرت التخلص منها، فرمتها من نافذة الغرفة باتجاه الحديقة. أما أنا فعجزت عن اتّخاذ قرار يحرمني بوظتي، ورحتُ أفكّر كيف السبيل في الحفاظ عليها، علّني أستطيع أن أتناولها في وقت لاحق. ولأنّ وضعها في الثلاجة سيفضحني، ذهبت إلى غرفة النوم، فتحت باب الخزانة، حيث أضع كتبي المدرسية، وحشرتُ قرن البوظة بشكل ثابت بين كتابين. أما أخي فقد اتّخذ قراراً شجاعاً بأن وضع قرن البوظة كلّه في فمه دفعة واحدة. فاحمرّ لون جبينه، خرجت عيناه من وجهه، وبدأ بالسّعال حتّى لحظة دخول والدي الغرفة.

سأل والدي شقيقي عن سبب سعاله، فتلعثم قليلاً، قبل أن يعلو صوت والدي. وفي ثوانٍ قليلة انهار تحت الضغط واعترف بكلّ ما اقترفناه، دفعة واحدة. وكان هذا سبباً كافياً لننال، نحن الثلاثة، وابلاً من الصفعات من حيث ندري أو لا ندري.

كنّا نعتقد أنّه قُضِيَ الأمر، لولا مرور والدي بعدها بدقائق أمام الخزانة، فلاحظ نقاط البوظة تتساقط من زاويتها. وهكذا بدأت جولة جديدة، تلاها قرار يقضي بالنوم حالاً.

المضحك المبكي هي الجولة الثالثة والأخيرة، التي نفّذها الوالد صباح اليوم التالي، في حديقتنا، حيث يركن سيّارته، عندما وجد القرن الثالث من البوظة على زجاجها الأمامي.
دلالات
المساهمون