اللغة بين لذّة العربيّة ودقّة الألمانيّة

16 أكتوبر 2014
بين اللغتيْن العربيّة والألمانيّة (Getty)
+ الخط -
الهويَّة اللغويَّة كانت بالنسبة إليّ المصبّ الجامِع والمُذوِّب المخدِّر، لكلّ التناقضات المتعدّدة الأعماق في هويَّتي الشخصيَّة المركّبة، لأنَّ الهويَّة اللغويَّة هي مشروعُ لا نهائي التشكُّل ومفتوح، يقبلُ الإضافة والنقصان والتقويم والمراجعة. أمَّا الهوية الشخصيَّة المركَّبة فهي ميراثٌ اجتماعيّ مُغلق.
الهويّة اللغويّة البسيطة هي أداةُ تفكيرٍ كاشفةٌ للواقع ونزَّاعة نحو الفهم المركَّب، والهويَّة الشخصيَّة المركَّبة هي أداةُ استحواذٍ على الواقع ونزَّاعة نحو الفهم المُبسَّط.
والهاربُ مثلي من الهويَّة الشخصيَّة إلى الهويَّة اللغويَّة، يريدُ الأخيرة منزوعةً من أيَّ ميولٍ أو مُحدّدات، سواءٌ أكانت سياسيَّة قوميَّة أو دينيَّة إسلاميَّة، ولعلّ الموضِع الأكثر طرواة والتهاباً في هويّتي الشخصيَّة، والمقاوم لعمليّة التسلّل إلى الهويّة اللغويّة، هو الموضع الخاصّ بالانتماء القومي الكردي، وذلك لسببين أساسيين، المُتاركة السياسيَّة التاريخيَّة بين القوميَّتين الكرديّة والعربيَّة، والتطابُق شبه التام في الخطاب السياسي العربي السائد بين كلّ من العروبة واللغة العربيَّة والهويَّة العربيّة.

والرغبة الأقلويَّة الكرديَّة تتفعَّل في صدد إتقان العربيَّة ببراعة وصرامة تفوقُ قدرة صاحِب اللغة الأكثروي "الأصلي" في إتقانها، ولعلَّ بعض محاولات الهروب والالتفاف انزلقت في هاوية "أيديولوجيا اللغة" أو "المزاودة على الفصاحة".
إذاً: الاجتهادُ الثقافي الأقلّوي بلغةِ الأكثريَّة، هو حيلةُ للتغلُّب على الكبت السياسي المُطبَّق على الأقليَّة، هو ممرٌّ سريّ نفسيّ للأقلويّ للنفاذ إلى الفضاء الثقافي، بعد الإقصاء والنبذ والاحتكار في الفضاء السياسي، وهو شوقُ الأقلوي في إلحاق الهزيمة الثقافيَّة بالأكثروي، بعد الهزيمة السياسيَّة أمامه.

لكن بعد مجيئي إلى ألمانيا وتعلّمي البطيء اللغة الألمانيّة تغيَّرت علاقتي بهويّتَي اللغوية، وتكوّنت مسافة ارتيابٍ تجاهَها. وستتخذ العلاقة شكلاً جديداً نتيجة فارقين أساسيّين بين اللغتين العربيّة والألمانية، الأول بنيوي: فعدد الأدوات الأوليّة والكلمات الخام في الألمانيّة أكثر من عدد الأفعال المُنجزة. أي أنَّ هنالِك قُدرة مستمرّة على خلق وتوليدِ وصياغةِ الأفعال. فوضعُ أيّ أداةٍ أوليّة أو كلمةٍ خام (حرف جر، ضمير، ظرف) أمام أيّ فعل، أمر كافٍ لتكوين معنى جديد، على عكس العربيّة، حيثُ عدد الأفعال المنجزة أكثر من الأدوات المفتاحيّة والكلمات الخام، وبالتالي قدرة أقلّ على إنشاء الأفعال. في العربية ثمة سهولة إطلاق وتعميم، على عكس الألمانيَّة حيثُ الميلُ أسهلٌ إلى التفكيكُ والتركيب. العربيّة لغة اللذّة السهلة والألمانية لغة الدقّة الصعبة.

الفارق الآخر بين العربيّة والألمانية هو التباعد بين الفصحى والعامية في العربيّة وتقاربها في الألمانيّة. فما تتعلّمه في المدرسة تسمعه بالشارع. في العربيّة ثمة اختلاف جذري بين العاميّة والفصحى. ومنشأ هذا الاختلاف في العربية والتماثل في الألمانية هو العلاقة بين العامّة والنخبة، أو بين الشعب والسلطة. ففي حالة التّماثُل تكونُ فرص جميع الأفراد بالكلام واحدة تقريباً، والكلام سلطة، أي أنَّ الجميع متساوون خلف عمليّة صناعة اللغة، بمعنى آخر، السلطة هنا في متناول الشعب وقدرة الناس على التحكم بشروط حياتهم اليومية مرتفعة. أما في حالة التباعد فثمة نخبة محدّدة تجيد فقط الكلام الصحيح الموزون المعقّد سنسميها "أوليغارشيا الفصحى"، وجميعُ العوام مُتساوون في جهلهم أمام لُغةٍ صاغتها النخبة. الشّعب هنا في متناول السلطة، وقدرة الناس على التحكم بشروط حياتهم اليومية ضعيفة أو معدومة كما في الحالة السورية قبيل انطلاق الثورة السورية.

بالتأكيد لا محدّدات جوهرية لهذه الفوارق، بل ثمّة عوامل وظروف تاريخية واقتصادية واجتماعية ودينية وسياسية. اللغة الألمانية مرّت بفترة ثورة صناعية جذريّة، كما أنّها تخلّصت من سلطة النصّ الديني المسيحيّ. في حين ما زالت اللغة العربية رازحة تحت سلطة النصّ الديني.
اقتراب العامية من الفصحى وزيادة الكلمات الخام على حساب الأفعال المنجزة لن يتم إلا بنجاح حركات التغيير السياسي - الاجتماعي التي انطلقت في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. نجاح تغيير الأجهزة السياسية الحاكمة ثمّ المساس بصلب البنية الثقافية المجتمعية.
وهذا يبدو حلماً في الوضع الكابوسي الراهن.
المساهمون