مقاهي صيدا مساحات ثقافية تكافح الزحف التكنولوجي

23 أكتوبر 2014
لا يزال المقهى محافظاً على شكله القديم (العربي الجديد)
+ الخط -
مقاهي صيدا القديمة لها تراثها وذكرياتها التي لم تُمحَ من أذهان الصيداويين، رغم التراجع النسبيّ لعددها ولعدد روّادها، فمنها ما لم يغلق أبوابه لأنّه يمثّل التراث القديم لصيدا، بل تحوّل لاحقاً إلى ما يشبه النوادي. فمرتادو هذه المقاهي هم أعضاء دائمون، ما زالت ذاكراتهم تحنّ إلى الحكواتي الذي كان يجعل السهرات المسائية جميلة ومسليّة، وأولئك الذين يلعبون ورق الشدّة وطاولة الزهر. لعبتان ما تزالان الأكثر شعبية إلى يومنا هذا في تلك المقاهي. 
صيدا القديمة، أو ما يعرّفه أهل المدينة بـ"البلد"، ما زالت قديمة، على حالها، رغم أنّ التكنولوجيا الحديثة قد غزتها، شأنها شأن سائر المناطق اللبنانية. فرغم انتشار الإنترنت، وروّاد مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أنّ معظم مقاهي صيدا ظلّت خارج هذه العادات الجديدة.

في السابق وعلى مساحة لا تتجاوز الكيلومتر المربّع الواحد، كان ينتشر أكثر من 22 مقهىً في أحياء صيدا القديمة، لم يبقَ منها اليوم إلا أعداد قليلة جدًّا، وبالكاد تؤمّن قوت أصحابها أو مستأجريها، والعاملين فيها، بعدما كانت ملتقى الأصدقاء والجيران بشكل دائم.

فحين كان زبائنها يتقاسمون كراسيها خلال لعب ورق الشدّة، كنت تراهم يصرخون بأصوات مختلفة فيعرف الآخرون أصوات بعضهم البعض. كيف لا، وهم أصحاب المكان. وتلك المقاهي الشعبية، الباقية من "زمن الطرابيش"، ليست لالتقاء العابرين كما هي المقاهي عادة، بل هي مساحات مغلقة مُصادرة، بطيبة خاطر، من مجموعة مسنّين، قلّما يدخل ضيف جديد إلى نواديهم المقفلة، بلا معرّفٍ عنه من أهل المقهى الأصليين.

داخل "مقهى سلّوم" مثلاً، ذاك المطلّ على ساحة باب السراي، ما زالت الكراسي والطاولات في مكانها منذ أعوام. وطريقة الجالسين عليها تدلّ إلى أنّهم مستعدّون لقضاء أيامٍ بلا تغيير واحد في أمكنتهم أو حركاتهم. فالكلّ هنا كان يقصد هذا المقهى، من أبناء المنطقة ومن خارجها، لشرب "النرجيلة"، التنباك منها والمعسّل، ولعب ورق الشدّة. وهذا المقهى يقع في وسط "ساحة باب السراي"، تلك الساحة الأساسية لمدينة صيدا القديمة.

صاحب المقهى الفلسطيني محمد سلوم روى في حديث لـ"العربي الجديد" إنّ "المقهى قديم جداً، فقد تمّ بناؤه منذ أكثر من 200 عام، ونحن نعمل هنا منذ أكثر من 40 عاماً، وكان قد عمل فيه والدي لعقود طويلة من الزمن أيضاً. فمنذ العام 1948 ونحن نملك المقهى، وقد كان يقصده كلّ "خواجات" المدينة وشخصيات البلد السياسية والاجتماعية والطبيّة والثقافية. يأتون ويجلسون هنا، وكان يحضر معهم وزراء ونواب وأطباء من مستشفيات المنطقة، حمّود، ولبيب ودلاعة، وأبناء العائلات العريقة في صيدا مثل: البابا، والزعتري، والزين وحجازي وغيرها...

سلّوم يعلّق على جدران المقهى صوراً للقدس وفلسطين ولكبار المطربين أمثال أمّ كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ. يعرض جزءاً من المخزون التراثي للمقهى، وأيضاً يعلّق صوراً لشخصيات كان لها تأثيرها ورونقها الخاصّ في تلك الحقبة من الزمن اللبناني.

ثم يشير سلوم إلى أنّ "تلك الأيّام أجمل بكثير من أيّامنا هذه. فقد كان لها نكهتها الخاصّة، فكان الحكواتي يقصد المقهى ويحكي القصص والروايات بطابع سرديّ رائع، فيجتمع الناس من حوله، من مختلف الأطياف والمذاهب والملل، ويروحون يستمعون إلى الحكايات الجميلة. فأولئك الأشخاص، بالنسبة إلينا، يمثّلون تراث مدينة صيدا وحضارتها وإرثها وذاكرتها".

يتابع مالك المقهى: "لكنّنا، ومنذ ثماني سنوات تقريباً، قمنا بعملية تحديث للمقهى، فقد كان بحاجة إلى الترميم بعدما مرّ عليه الزمن. ومزجنا بين الأصالة والتراث والحداثة، خصوصاً أن أبناء مدينة صيدا القديمة يعيشون في الماضي، مع مراعاة خصوصية الجيل الجديد. فنحن عشنا العصر الذهبي في ذلك الوقت، حين كانت المقاهي تعجّ بأبناء المدينة وضيوفها، ويلتقي فيها الأصدقاء والأحبّة والأقرباء على "نَفَس" النرجيلة ويثرثرون ويمرحون. وكنتَ تسمع أصوات ضحكاتهم الصاخبة. أما الآن فإنّ الحركة ضعيفة جداً، والوضع حزين، حتّى أنّك إذا رميتَ الإبرة فقد تسمع رنّتها. هذا لأنّ الوضع الأمني السيئ في لبنان بشكل عام زاد الطين بلّة بالنسبة إلى المقاهي. وهذا الوضع المأزوم يضعنا في مأزق، إذ يشلّ حركة المدينة. وبالطبع فإنّ السيّاح غابوا، وحتّى أهل البلد خفّ حضورهم كذلك".

أما مقهى الزجاج، "قهوة القزاز"، كما يسمّيها أهل صيدا الأصليون، فله حكاية أخرى.
هنا كان يجلس الحاج علي، وهنا كان يلعب محمود، وما بينهما كان يلتقي الأحباب والعشّاق. ويروي حسن المصري، صاحب "قهوة القزاز"، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ "عمر المقهى 140 عاماً، وأصحابه الأصليون من آل حاسبيني في بيروت، استأجره كثيرون قبلي، إلى أن استأجرته منذ نحو 25 عاماً، حين كان أشهر مقهى، على اعتباره من أهمّ المقاهي في صيدا".

ويتابع المصري روايته بحماسة: "ما يميّز هذا المقهى هو الحكواتي، إذ كان أهل المدينة القديمة يهرولون ليستمعوا إلى أجمل القصص والروايات في تلك الحقبة. وقد شهد حركة فنيّة مهمّة، فجرى تصوير مشاهد العديد من "الفيديو كليب" والأعمال التلفزيونية، وأشهرها للممثّل الراحل فهمان، ومشاهد من فيلم فرنسي، وقبل ذلك كان يلتقي هنا الكثير من المشاهير مثل: رياض شرارة، وجمال سليمان، وفادي شربل وكارين رزق الله".

ويضيف: "مقهى الزجاج كان يُعتبَر ملتقى المثقفين، وقد شهد جلسات للحركات الثورية والتظاهرات التي عبرت في المدينة وغيّرتها، فكان يجمع السياسيين والشخصيات المهمّة في المراحل الانتخابية، وكان مركز تجمّع. أما اليوم فإنّ الوضع الأمني أثّر عليه، فلم يعد يرتاده أحد من الفنانين، ولا يتوقّف عنده السيّاح ولا أبناء المنطقة، ولا العابرون، إلا القليل القليل منهم، فالحركة شبه معدومة هنا".

ويروي أنّ دخول التكنولوجيا، خصوصاً الإنترنت، إلى حياة الناس اليومية، كان الضربة القاضية التي قضت على عدد كبير من المقاهي، فقُتلت الحركة فيها بشكل عام: "فبعدما كان الأصدقاء يجتمعون ليقصّ كلّ منهم أخباره على مسامع الآخرين، اختفوا في أيّامنا هذه، وغابت حكاياتهم. فاللقاءات صارت افتراضية وموجودة على الإنترنت.
المساهمون