الهيكل العظميّ الذي أحبّته ضيعتنا كلّها... هكذا مات

23 يناير 2015
هيكل عظمي (Getty)
+ الخط -
بقي عزّوز لسنوات طويلة الشخصية الأقرب والمحبّبة لكلّ أبناء بلدتي الجنوبية جرجوع. يقضي صيفاً عند عمتي وصيفاً آخر في بيت بونبيل أو عند مسعود، ويقضي ليالي شتائه متنقّلا من دار إلى دار وفق ما تقتضي أو تصادف حصص العلوم في صفوف مدرسة الضيعة.

مدرسة جرجوع، البلدة الجنوبية الواقعة في إقليم التفّاح، قبل مدينة النبطية جنوب لبنان، وحتّى بداية الثمانينيّات، كانت عبارة عن غرف مستأجرة من بعض منازل أهل البلدة: صفوف موزّعة على مساحة الضيعة، منتشرة بين حاراتها، الفوقا والقليعة والحارة الشرقية والساحة وغيرها.

من بيت عمّتي مثلاً في حارة القليعة غرفتان للمدرسة هما الصفان الثاني والثالث الابتدائي، وغرفتان من بيت بونبيل قرب الساحة للإدارة والمختبر، وصفّ الخامس، أي "صفّ السيرتفيكا"، عند بيت مسعود. ولأنّ بيت مسعود حظِيَ بصفّ الشهادة، اتّفق أبناء البلدة على تسميته "كلية مسعود".

فمع كلّ عام دراسي جديد يتعرف كل طالب إلى صفّه في بيت ما، لينتقل في السنة التالية إلى صفّ جديد في بيت آخر وحارة أخرى. وبهذا ينهي سنوات دراسته وقد أصبحت جرجوع كلّها مدرسته.

عزّوز هو اسم أجمع أبناء البلدة على إطلاقه لتسمية الهيكل العظمي البلاستيكي، الذي يحاكي الهيكل العظمي البشري، الذي يعتمده أساتذة العلوم في المختبر. هذا المجسّم المنحوت على شكل إنسان، يشرحون من خلاله لتلامذتهم عن تفاصيل الجسم البشري ووظائف أعضائه.

ولأنّ المختبر في مكان والصفوف في مكان آخر، وجب نقل عزوز من المختبر إلى الصفّ عند كلّ حاجة به. فيرسل أستاذ العلوم أحد تلامذته لإحضاره من المختبر أو من صفّ تُرك فيه عند آخر استخدام.

فيتنقّل عزّوز كلّ يوم في الضيعة بين بيوتها وفي زواريبها وعلى مرأى من عيون أهلها، ليصبح مع الوقت واحداً من أبنائها، معروفاً لدى الجميع ومحبّباً من الجميع، كونه، كما يصفونه صاحب صفات أخلاقية عظيمة، فهو خفيفّ الظل، لا يسيء لأحد بلسانه، لا ينقل أخبار بيوت دخلها أو زارها وهو الزائر الدائم لكثير من البيوت. كان يقول عنه جدّي: "عزّوز ما بيحبّ القيل والقال".

وفي الوقت نفسه يقدّرون دوره إذ يساهم في أن يكون مصدراً مهمّاً وأساسياً في تعليم أولادهم.
لهذا السبب كان من الضروري أن يُطلق على عزوز اسمٌ، وأن يصبح شخصاً حقيقياً، وصار محطّ سؤال لكلّ من يحمله: "وين رايح عزّوز اليوم؟"، أو "عند مين سهران عزّوز اليوم؟"، و"ميّل إنتَ وعزّوز نشرب قهوة".

وعند نهاية كلّ عام دراسي يبقى عزوز في البيت الذي زاره في آخر حصّة علوم قبل عطلة الصيف، ليقال بعدها: "عزّوز السنة مصيّف عند بيت فلان". وهذا ما يتسابق عليه ويتمنّاه كثيرون، أي أن يقضي عزّوز فصل الصيف معهم، واحداً من أفراد الأسرة، واقفاً على طاولة في زاوية غرفة يأنسون وجوده.

هكذا بعث أبناء بلدتي الحياة في حجر وجعلوه بشراً، واحداً منهم، أحبّوه، وتفاءلوا به... بعثوا فيه الحياة والروح في وقت تخطف أرواح ناس من لحم ودم من حولهم في الجنوب وفي لبنان كلّه. 

تتالت الحروب على بلدتنا ولم ترحم فيها بشراً ولا حجراً... إلى أن وجدنا عزّوز أشلاءً، منثوراً أمام حطام منزل دمّرته الصواريخ.

مات الهيكل العظمي الذي كنّا نحبّه... مات عزّوز. 
دلالات
المساهمون