مسجد ابن عربي: هنا يرقد شيخ المتصوّفة

02 يوليو 2015
داخل المسجد في الصالحية (راتب سومر)
+ الخط -

نحن، أهل دمشق، ربما نمرّ عشرات المرات في الأسبوع الواحد أو الشهر الواح، بحيّ ابن عربي وجامع ابن عربي، من دون أن نتساءل عن سبب نسبهما لشيخ الصوفية الأكبر.
لكن، في زحمة أيامنا، وفي مشاويرنا السريعة التي نقطع بها أزقّة "الصالحية" قد نتوقف دقيقة، نرى مشهداً ملفتاً، تحديداً فجر الخميس أو أوقات الإفطار في رمضان، ونرى الفقراء يغرفون من حساء "الهريسة"، ومؤمنين أتراكاً يدعون، وآخرين سوريين يتلون نذورهم وطلبة علم يبحثون.

الطريق إلى الوليّ
في أحد أحياء دمشق في منطقة الصالحية، التي تُعرف اليوم باسم أبو جرش، وبالقرب من نهر يزيد، الذي جفّ منذ سنوات، وضمن سوق وحيّ سكني يُدعى الشيخ محي الدين، يوجد جامع الخنكار أو جامع السليمية، أو ما تعارف على تسميته جامع الشيخ محي الدين بن عربي، نسبة إلى الشيخ المتصوّف الإمام الأكبر، أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن عربي بن أحمد بن عبد الله الحاتمي الطائي الأندلسي، الذي أسّس طريقة خاصّة به أسماها الطريقة الأكبرية، ولها الكثير من الأتباع في الوطن العربي.

نستطيع الوصول للجامع الذي ما زال يرتاده المصلون من بابين: الأوّل يطلّ على منطقة الجبّة ونضطر لنزول درج للوصول له، وباب آخر يطلّ على سوق الخضار أو ما يعرف بسوق الجمعة، وهو سوق معروف ببيع الخضار والفاكهة في دمشق، وعلى كتف الجامع يوجد محلّ تجاري واحد لبيع الستائر.

يُعتبر جامع الشيخ محي الدين، واحداً من أهمّ جوامع دمشق، ويساوي في أهميته الدينية، وربما العمرانية مع فارق المساحة، الجامع الأمويّ.

وهو ما زال يحتفظ بمكتبة عامرة بالكتب والمخطوطات والمعاجم الفريدة، وما زال حتى يومنا هذا، مقصداً لبعض طلبة العلوم الدينية، إذ يستقبلهم بعد صلاة الجمعة ليستمعوا إلى درس في "رياض الصالحين" يقدّمه الشيخ محمد الفحّام.



أصل الجامع
يقال إن العّلامة وشيخ الصوفية الأكبر ابن عربي، استقرّ في مدينة دمشق عام 620 هجرية، ومات فيها عام 638 هجرية، ودُفن في منزل عائلة "ابن الزكي"، ثم نُقل جثمانه إلى الصالحية، ودفن في تربة خاصة بأسرة ابن الزكي، ثم بني حول ضريحه جامع صغير فيه منبر ومحراب، لكن السلطان العثماني سليم الأوّل، قرّر تكريم الشيخ بعد أن رآه في الحلم، كما تذكر بعض المصادر، فأعاد بناء الجامع بعد زيارته لدمشق في العام 1518م، وأسندت مهمة التصميم وإعادة الترميم إلى المهندس العثماني شهاب الدين العطار، فتحوّل الجامع الصغير إلى مسجد من الطراز العثماني العظيم، ووضع المقام فوق الضريح مباشرة.

اقرأ أيضاً: أغاني "المداحين"

كان جامع وضريح الشيخ محي الدين، وحتى بداية الأزمة في سورية، مقصداً للزوار والسياح العرب والأجانب، وخاصة الأتراك منهم، كما يخبرنا صاحب إحدى شركات السياحة في دمشق، على اعتباره مسجداً عثمانياً بالدرجة الأولى، ولما يتمتّع به الرجل من مكانة دينية وخاصة لدى الصوفية، بل إن رجال سياسة وسلطة وكبار القوم كانوا يبادرون لبركته وزيارته، فتذكر كتب التاريخ أن الرئيس جمال عبد الناصر زاره في أيام الوحدة المصرية السورية، وأن الأمير عبد القادر الجزائري نزيل دمشق حينها، طلب أن يدفن ويوارى الثرى إلى جوار قبر الشيخ محي الدين، ثم نقل جثمانه في الستينيات من القرن الماضي إلى الجزائر العاصمة بعد استقلالها، ولم يبق سوى التابوت الخشبي.

وإلى جانب ضريح الشيخ ابن عربي يوجد حالياً قبر ولديه سعد الدين وعماد الدين، وقبر صهر الخديوي إسماعيل باشا، محمود سري باشا، بالإضافة لشيخين سوريين هما: الشيخ محمد أمين خربطلي ناظر الجامع الأسبق والشيخ محمد بن طه سكر.

تكيّة السلطان سليم
لم يكتفِ السلطان سليم بترميم وإعادة هيكلة الجامع، بل أقام بالقرب منه "التكية السليمانية"، كانت التكية وإلى وقت قريب تقوم بتوزيع الطعام على الفقراء مرّتين أسبوعياً (يومي الإثنين والخميس) فتقدم لهم حساء الهريسة بلحم الضأن أو الدجاج مع قطعتي خبز، وكانت موارد الطعام تلك تأتي من المتبرعين للتكية من التجار وأصحاب المال والنذور، أو من مستخدمي التكية كمكان لإقامة العزاء في أمواتهم. لكنّ الطعام المقدّم يقتصر في يومنا الحالي على وجبة واحدة، تقدم فجر يوم الخميس مكونة أيضاً من حساء الهريسة.

اقرأ أيضاً: سوق الحميدية: عراقة التاريخ وتراث الصناعة

وفي حين أنّه من المفترض أن يستمرّ الجامع في تقديم وجبات الإفطار الرمضانية يومياً، كما جرت العادة، وفي حال توفّر المال المطلوب لتغطية التكلفة، يخبرنا أحد الرجال المسنّين عن حال التكية اليوم: "في الماضي كانت تقدّم الخراف كنذور وأضاحٍ، فتُطهى لحومها وعظامها (الهريسة)، وكان لا يأتي في طلبها سوى المحتاج، أما الآن، ورغم أن الطعام لم يعد يكفي الفقراء، ولم تعد هناك موارد مالية لتغطية نفقاته، فإن متوسطي الحال يقفون بجانب الفقراء للحصول عليه. فهل هذا بسبب الجشع أم أن الأحوال انقلبت على هؤلاء كما انقلب كل شيء في دمشق؟!".

معظم من توقفنا لمقابلتهم من الشبان والشابات من العاملين أو القاطنين في الحيّ، يعرفون عن المسجد وعن وجود أضرحة بداخله، لكنهم لا يعرفون عن ابن عربي، إلا أنه وليّ من أولياء الله أو شيخ الطريقة الصوفية، أما المسنّون فيعرفون الكثير عنه ويخبرون الكثير من القصص عن حياته حين تسألهم.

بينما جدران الجامع تقاوم شروخ الزمن، يبرز شرخ كبير بين الأجيال، ورغم أنّ الإجابة لن تغير الواقع إلا أنّ السؤال يبقى ملحّاً: من المسؤول عن عدم توارث حكايات شيخ العاشقين؟ السلف أم الخلف؟ أم اللحظة التاريخية الفارقة التي يعيشونها معاً؟

اقرأ أيضاً: سورية وأسماؤها.. شاعرية الجغرافيا وقسوة التاريخ

المساهمون