حمّى الثلج: جنون يستكمل نار الغانغام ستايل والهارلم شايك

03 سبتمبر 2014
دلو الثلج (صور ديامون/Getty)
+ الخط -

لا نعرف لماذا قرّر الآلاف حول العالم أنّه قد آن الأوان للتبرّع لمرضى "التصلّب الجانبي الضموري".
فجأة بات مشاهير العالم، من نجوم هوليوود إلى مذيعات بيروت وناشطي مواقع التواصل الاجتماعي في السودان والموزامبيق وضواحي باريس، يريدون التبرّع لمرضى "التصلّب الجانبي الضموري – ALS". وبات "دلو الماء" (Ice Bucket) هو الأكثر شهرة في العالم. أشهر من "طيور ظلام" داعش والحرب الإسرائيلية على غزّة وأجدد من الأفلام الأميركية وقطع رأس الصحافي الأميركي جيمس فولي.
بات دلق دلو من الماء والثلج على الرأس موضة ما بعدها موضة، والتقليعة الأقوى حول العالم. هذا المرض يصيب 1 إلى 2 من كلّ 100 ألف إنسان حول العالم، وفي أقصى تقدير 4 إلى 8 من كلّ 100 ألف، بحسب الجمعية التي أطلقت التحدّي. أي أنّ العدد التقريبي للمصابين به يتراوح بين 70 و500 ألف في العالم كلّه، كحدّ أقصى.
في حين أنّ سرطان البروستات يصيب 148 من كلّ 100 ألف رجل في العالم. ونحو مليوني إنسان يصيبهم "السكّري" سنويا. إذاً المصابون بـALS حول العالم يقارب عددهم عدد الذين قتلهم نظام بشّار الأسد. وهو ليس عددا كبيرا، رغم أنّ حياة إنسان واحد تستأهل، بالتأكيد، حملة أكثر من هذه للحفاظ عليها. ولا اعتراض هنا أو انتقاص من أهمية الحملة وضرورتها.
لكنّ أسئلة كثيرة يجب طرحها، طالما أنّ الحملة وصلت إلى بيوتنا، وبات أصدقاؤنا وأخوتنا والمشاهير الذين نحبّهم، كلّهم، متورّطين فيها. فمن المؤكّد أنّ التبرّعات، وكلّ سعرة حرارية صرفها أحدنا، في دعم هذه الحملة، ذهبت إلى صالح الجمعية الأميركية "ALS Association". وهي لا علاقة لها بلبنان، ولن يستفيد منها أيّ عربيّ، إلا إذا كان مقيما في الولايات المتحدة الأميركية واستطاع الوصول إلى الجميعة بطريقة ما.
طبيبة الأعصاب اللبنانية الدكتورة كارين أبو خالد، المتخصّصة في داء الصرع، عملت مع واحدة من مؤسّسي الجمعية في الولايات المتحدة، في العام 1985، الدكتورة بيري هايمن باترسون. عملت تحت إشرافها لأربع سنوات بولاية فيلادلفيا الأميركية في مستشفى "بريكسل الجامعي"، من العام 2001 إلى 2005. تجزم أبو خالد أنّ الجمعية "لا تعمل خارج الولايات المتحدة". وتؤكّد أنّها، في عيادتها بلبنان، وبحكم علاقاتها بأطباء الأعصاب في لبنان، لا تعرف مرضى بـ"التصلّب الجانبي الضموري" يزيدون على عدد أصابع اليدين.
وتلفت في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "مرضى الصرع (epilepsy) يحتاجون إلى التبرّعات، في لبنان والعالم، أكثر من مرضى ALS، لأنّ الصرع يصيب واحداً في المائة من البشر، وفي لبنان هناك مرضى يحتاجون إلى عمليات تؤمّن لهم شفاءً تامًّا، تتراوح كلفتها بين 2000 و20 ألف دولار أميركي، لكن لا يجدون من يساعدهم". هكذا يكون مشروعا السؤال: كيف اجتاحت تقليعة "دلو الماء" العالم العربي؟ وكيف شغلت مشاهيره؟ وكيف صار التبرّع لأجل مرض، لا نعرف أحداً مريضا به، ولا نعرف شيئاً عنه، موضة أسرت عقولنا وجعلت الكبير والصغير يريد دعمه؟ ولما اجتاحتنا هذه اللعبة بهذه السهولة؟ البعض انتبه.
منهم ثلاثة أطفال في مخيّم الزعتري للاجئين السوريين، طالبوا بدعم مشاريع تقودهم من الخيم إلى المدرسة. في حين أنّ الجميع وقعوا في فخّ "الميل مع الريح"، منهم الفنانة هيفا وهبي. هذا التحدّي ذكّر بعدد من التقليعات التي غزت العالم من أقصاه إلى أقصاه خلال السنوات الأخيرة. فمن لم يرقص على أنغام أغنية "غانغام ستايل" التي زاد عدد مشاهديها عن مليارين، ورقص العالم كلّه على أنغامها في يوليو/تموز وأغسطس/آب 2012؟ ثم كانت موضة رقصة الهارلم شايك في العام التالي، 2013.
وهذا العام نجحت حملة "دلو الثلج" في أن تملأ فراغ الصيف بالموضة العالمية المناسبة. كما لو أنّ الكوكب بات مدمنا على الاشتراك في فعل واحد. أو أنّ البشر يحبّون أن يقلّدوا بعضهم بعضا في شيء مشترك. لعبة تبدأ في حارة كورية أو أوروبية أو أميركية، وتنتشر في أرجاء المعمورة، مالئة الدنيا وشاغلة الناس. ففي 2012 رقص الناس على أنغام أغنية لا يعرفون معنى كلماتها. كانت معجزة موسيقية جعلت الأميركيين والأوروبيين والصينيين والعرب يدمنون على لغة كورية يعادونها. ثم في 2013 لم يعرف أحد ماذا يعني أن تبدأ بالهزّ الخفيف، لتغرق في رقص مجنون بعدها.
لكنّ العالم رقص "الهارلم شايك". وقيل إنّها آتية من حيّ يسكنه الأميركيون من أصول أفريقية، من ذوي البشرة السمراء، في نيويورك، الأرجح أنّ أصلها أفريقيّ. هكذا كان العالم يبحث عن طريقة تُشعِرُ المليارات السبعة أنّهم يملكون شيئا مشتركا.
وإن كان أغنية كورية أو رقصة أفريقية أو جمعية أميركية. وفي حين أنّ "غانغام ستايل" جرت محاولة لتصريفها في السياسة، بين الكوريتين، الشمالية والجنوبية، وفي حين استخدم كثيرون حول العالم رقصة "الهارلم شايك" في تحرّكات سياسية، خصوصا في مصر وتونس، فإنّ "دلو الثلج" ما يزال "خاليا من السياسة"... حتّى الآن. لكن نجح مسوّقو حملة "دلو الثلج" في الاستناد إلى هذه الرغبة العالمية الجامحة في التناغم والاشتراك في "شيء واحد". فاستثمروها وسوّقوها، بدفع من كبار مدراء الشركات الأميركية، ونجوم هوليوود، وجمعوا عشرات ملايين الدولارات.
وإذا كانت إشارة الانطلاق في سلسلة الحمّى العالمية هي أغنية كورية، والمحطة الثانية رقصة أفريقية، فإنّ المحطة الثالثة جاءت بلا كلمات ولا موسيقى حتّى، بل بفعل "بارد" إلى حدّ الثلج، ومن الولايات المتحدة الأميركية. وجعلت طفلا سوريا نازحا في مخيم الزعتري بالأردن، ورجلا في واشنطن، ومراهقة في بيروت، وعجوزا في الصومال، يشعرون أنّهم جزء من "لعبة عالمية واحدة". هذا رغم أنّ معظم المشاركين يعرفون جيرانا يحتاجون إلى عشرة دولارات وإلى مائة دولار أكثر من مريض أميركيّ لا يعرفونه، ولن يؤثّر مجرى حياته في مصائر حيواتهم. ربّما كان يمكن أن يفتح كلّ مشارك باب بيته ويسأل جاره إذا كان يحتاج إلى شيء. لكن لا. الرغبة في الانضمام إلى "لعبة كوكبية"، وإن بدفع المال، أقوى من الرغبة في المساعدة. وطبعا هناك "الإغراء الأكبر"، وهو "الميديا" التي تعلن، فجأة، استعداد الجميع لمشاهدة الجميع، وهم يرقصون أو يرمون دلاءً من الثلوج على رؤوسهم. ربّما يمكن القول إنّ "التصلّب الجانبي الضموري" لا علاقة له بما يشهده العالم من هستيريا ثلجية. ولا الرغبة في المساعدة. ولا الشفقة على المرضى. هو فقط الاستعراض، ممزوجاً بـ"إغراء العالمية". وقريبا سنشهد "حمّى" جديدة، رقصا أو غناء، أو جنونا مفاجئا سيبهرنا، وسيجعلنا نفكّر في الشرب من نهر الجنون العالمي.
المساهمون