ومن الواضح أن المرحلة الثانية التي تنفذ تدريجياً تستهدف وسائل الإعلام الأجنبية العاملة في مصر، إذ علمت "العربي الجديد" أن هناك ضغوطاً كبيرة تمارسها أجهزة الأمن والاستخبارات المصرية على مكاتب وسائل الإعلام الأجنبية في القاهرة، ضمن مخطط لإغلاق تلك التي يعتبرها النظام الحاكم في البلاد مصدر تهديد بما تبثه من أخبار وتقارير خارجة عن سيطرته.
وأكد هذا المخطط مصدر في أحد الأجهزة الأمنية "السيادية" لـ "العربي الجديد"، رافضاً ذكر اسمه.
مكتب "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي) كان الهدف الأبرز والأهم للأجهزة الأمنية المصرية، وفق ما أكدته مصادر من داخل المكتب لـ "العربي الجديد". وقالت المصادر إن أجهزة الأمن توجّهت إلى مالك المبنى حيث يتركز مكتب القناة البريطانية، في منطقة العجوزة على كورنيش النيل في الجيزة، وضغطت عليه كي لا يجدد لها عقد الإيجار، وتأجير المقر لمكتب تابع للمخابرات.
وجاءت محاولات التضييق على "بي بي سي" في مصر بعد تقرير نشره الموقع في مارس/ آذار الماضي، حول حملة "#اطمن_انت_مش_لوحدك" المعارِضة لحكم السيسي. وبدأت بتقارير صحافية نُشرت في وسائل الإعلام التابعة للاستخبارات في مصر تهاجم المؤسسة البريطانية، كما أصدرت الهيئة العامة للاستعلامات بياناً اتهمت فيه "بي بي سي" بالترويج للمحرضين على القتل، ودعتها للاعتذار عن التقرير الذي وصفته بـ "المسيء".
وقالت "الهيئة العامة للاستعلامات" التي يرأسها نقيب الصحافيين المقرب من الأجهزة الأمنية، ضياء رشوان، إنها "بذلت طوال ما يزيد على عام كامل جهوداً حثيثة وجادة مع "بي بي سي"، سواء عبر مكتبها في القاهرة أو مركزها الرئيسي في لندن، للتوصل لـ "التزامها في تغطياتها للشؤون المصرية بالموضوعية والحياد والقواعد المهنية الإعلامية المستقر عليها دولياً، وقد أسفرت هذه الجهود عن التزامها لأشهر عدة فقط".
كما قررت الهيئة العامة للاستعلامات استدعاء مديرة مكتب "بي بي سي" في مصر، الزميلة صفاء فيصل، عن طريق مدير عام المركز الصحافي للمراسلين الأجانب التابع للهيئة. ودعت الهيئة "المسؤولين المصريين ومختلف قطاعات النخبة المصرية إلى مقاطعة (هيئة الإذاعة البريطانية)، والامتناع عن إجراء أي مقابلات أو لقاءات إعلامية مع مراسليها ومحرريها، حتى تعتذر رسمياً عن التقرير التحريضي المسيء"، بحسب ما ورد في البيان.
قناة "بي بي سي" وغيرها من القنوات الفضائية الدولية كانت تعتمد على شركتين خاصتين متخصصتين في البث الفضائي للعمل في مصر، إذ كانت تلك القنوات تتصل بضيوفها وتدعوهم إلى التوجه إلى مكاتب إحدى الشركتين للمشاركة في برامجها. لكن اختلف هذا الوضع أخيراً.
قناة "فرانس 24" الفرنسية على سبيل المثال كانت متعاقدة مع مكتب "سي إن سي" الموجود في بناية "دوحة ماسبيرو" في ميدان عبد المنعم رياض، لاستخدام الاستديو الخاص به وأجهزة البث الفضائي. وهو المكتب الذي يخدم أيضاً قنوات "أبو ظبي الرياضية" و"تلفزيون فلسطين"، وغيرها. أما قناة "بي بي سي" البريطانية فكانت تمتلك أجهزة بث خاصة بها، ولكن نظراً للكلفة العالية لجأت إلى تأجير أجهزة البث.
ويُعتبر كلٌّ من "يو إن آي" المملوكة لهاني عمارة وتخدم قنوات "روسيا اليوم" والتلفزيون السعودي وقنوات أخرى، و"آي تي إس" المملوكة لطارق نصار التي تخدم "الحرة" و"بي بي سي" و"سكاي نيوز"، الشركتين الوحيدتين اللتين تعملان في هذا المجال.
وقال مصدر من داخل قناة "دويتشه فيله" الألمانية DW، لـ "العربي الجديد"، إن مسألة استضافة المصادر من مصر أصبحت غاية في الصعوبة، نظراً للرقابة الأمنية المشددة. وضرب المصدر، متحفظاً على ذكر اسمه، مثالاً بأن فريق الإعداد للقناة الألمانية اتصل ذات مرة بالصحافي المصري خالد داوود لاستضافته على الهواء مباشرة من القاهرة، إلا أن شركة البث التي أصبحت تحت سيطرة الأمن رفضت ذلك، مما اضطر المحطة الألمانية إلى إجراء المداخلة مع داوود عن طريق تطبيق "سكايب".
والمعروف أن قنوات كبرى مثل "سي إن إن" الأميركية لم يعد لديها مراسل ثابت في مصر منذ فترة طويلة.
وعلمت "العربي الجديد" أن "المجلس الأعلى للإعلام" الذي أنشأه عبد الفتاح السيسي ليكون بديلًا عن وزارة الإعلام المصريّة يسعى لتأسيس شركة، للاستحواذ على أجهزة البث الفضائي كلّها وجمعها في مكان واحد لا يتم البث إلا من خلاله.
وأصدر المجلس بدوره 86 قراراً بعقوبات مختلفة على وسائل الإعلام والعاملين فيها خلال عامين فقط من تأسيسه، وفق منظمة حقوقية مصرية تتبعت مسار تأسيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام. ولاحظت المنظّمة أنّ "السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية تعمّدت عدم إجراء أي نقاشات مجتمعية حول الاختصاصات المخوّلة للأعلى للإعلام، بجانب أنها أوكلت العديد من الصلاحيات إليه، وجعلت منه رقيبا أعلى وأخا أكبر يراقب ما يُبث وينشر على وسائل الإعلام، وهو ما نستنتج منه أن كلًا من السلطتين تعمدت خلْق كيان مؤسسي تستطيع من خلاله التحكم في كل ما يبث وينشر في جميع وسائل الإعلام".
وكالات الأنباء الدولية لم تسلم أيضاً من محاولات الأجهزة الأمنية في مصر للسيطرة عليها وإخضاعها للرقابة المشددة، حتى الوكالات الناطقة بلسان دول صديقة مثل روسيا التي تتسق مواقفها الدولية إلى حد كبير مع الموقف المصري.
وعلمت "العربي الجديد" من مصادر داخل وكالة الأنباء الروسية وموقعها الإلكتروني "سبوتنيك عربي"، ومقرها في منطقة الزمالك، أن هناك محاولات مستمرة للتضييق على مكتب الوكالة في القاهرة عن طريق المركز الصحافي للمراسلين الأجانب التابع لـ "الهيئة العامة للاستعلامات" ويديره محمد إمام، إذ يرفض استخراج تصريحات للمراسلين الصحافيين بالوكالة، ويعطل العملية لفترات طويلة.
وشنّت وسائل إعلام مصرية تابعة للاستخبارات العامة حملة هجومية على موقع وكالة الأنباء الروسية "سبوتنيك"، إذ نشر موقع "دوت مصر" تقريراً قال فيه إن الوكالة الروسية كانت "إحدى الأذرع الإعلامية الغربية التي اعتمدت عليها قطر في توصيل رسائلها إلى الخارج".
وأضاف التقرير أن المؤسسة الروسية المذكورة "تخفي كراهية لمنطقة الشرق الأوسط على خلاف تعاملات روسيا مع تلك البلدان، ولعل المصالح والتمويلات تتفوق على قرارات دولتها". وأشار إلى أن "الوكالة مستمرة في نشر بيانات الدوحة، كما أنها تحولت إلى منصة للدفاع عن قطر في مواجهة الرباعي العربي، والاتهامات المثبتة لقطر بأنها داعمة للإرهاب".
وقال التقرير إن "قطاعاً عريضاً من الجماهير المصرية يتعامل مع الوكالة الروسية وموادها من منطلق "سياسة السم في العسل"، وإنها لم تعد مصدراً موثوقاً به كما بدأت". وأضاف: "هل ترتضي الإدارة الروسية نفسها هذه المواد الموجهة ضد مصر؟ هل هناك رقابة من المسؤولين الروس على الوكالة؟ أم أن الحبل متروك على الغارب لمدير إقليمي في مكتب مصر يحدد السياسة التحريرية التي طالما أخرجت مواد موجهة عن اقتصاد وسياسة وقرارات القاهرة الداخلية؟".
وفي السياق نفسه، علمت "العربي الجديد" من مصدر مطلع داخل مكتب وكالة الأنباء الروسية، رفض ذكر اسمه، أن إدارة "روسيا سيغودنيا" الشركة الأم المالكة لـ"سبوتنيك" و"آر تي" وغيرهما من المؤسسات الصحافية الروسية قررت نقل المدير الإقليمي لـ"سبوتنيك" نديم الزواوي، وهو روسي من أصول جزائرية، من القاهرة إلى مكتب الوكالة في العاصمة البلجيكية بروكسل. وقال المصدر إن الأجهزة الأمنية تحاول الدفع بأحد رجالها لإدارة المكتب، وطُرح بالفعل اسم جمال الشناوي، رئيس التحرير السابق لقناة "أون تي في" التي سيطرت عليها المخابرات العامة.