صحافة تونس الورقية تلفظ أنفاسها الأخيرة: أزمة مالية وفوضى

26 يونيو 2018
يعاني الصحافيون هشاشة مالية (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
يبدو أن الأزمة التي تعيشها الصحافة الورقية التونسية تزداد استفحالاً، إذ بعد إغلاق عدد من الصحف أبوابها، مثل "الصريح" و"أخبار الجمهورية"، تعاني مؤسستان من أعرق المؤسسات الإعلامية في تونس هذه الأيام أزمة كبرى قد تعجل باندثارهما، وهو ما لا يتمناه أي عاقل في تونس، خاصة أنهما تعدان جزءاً من الذاكرة الوطنية.
مؤسسة "سنيب لابراس" التي تصدر صحيفتين يوميتين، إحداهما ناطقة بالفرنسية "لابراس"، وأخرى بالعربية "الصحافة اليوم"، يعود تاريخ تأسيسها إلى عام 1936، وحافظت على استمراريتها إلى حدّ الآن. لكن هذه الاستمرارية مهددة، وفق ما كشف أحد كتّاب "الصحافة اليوم"، زياد الهاني الذي قال إن المؤسسة "تقف على حافة الإفلاس، وتعاني من ديونها المتراكمة لدى صندوق الضمان الاجتماعي وشركة التأمين والمزودين، وصعوبة بالغة في توفير الأجور الشهرية للعاملين فيها. كما تعاني من أزمة الورق التي تهدد بإيقاف صدورها، ومن حالة انفلات وفساد أقله تمتع بعض كبار نقابييها بتفرغات غير قانونية وامتيازات غير مشروعة يحصلون عليها على حساب عرق المواظبين على العمل في المؤسسة وبرعاية كاملة وتغطية من رئاسة الحكومة التي تزعم محاربة الفساد".
غضب الهاني من الحكومة وسياستها إزاء المؤسسة يعود أساساً إلى تواتر أخبار عن رغبة الحكومة التونسية في التفويت فيها لمستثمر خاص، وهي أخبار ينفيها العاملون في مصالح الإعلام التابعة لرئاسة الحكومة التونسية. لكن الهاني يرى أن خطوة الحكومة أخيراً بتعيين، المنوبي المروكي، مديراً عاماً جديداً للمؤسسة تصب في هذه الخانة. إذ تساءل: "ما معنى أن توافق الحكومة على برنامج لإعادة هيكلة المؤسسة وتطهيرها، ثم تعين على رأسها صحافياً تقاعد منذ أكثر من 9 سنوات؟ هل جاءت به للسيطرة على الخط التحريري الوطني لصحف المؤسسة وأساساً جريدتنا "الصحافة اليوم" الذي لا يعجب أركان رئاسة الحكومة. أم أنها تريد "تبريك" (إفلاس) المؤسسة على يديه، باعتباره أحد أبنائها السابقين لتبرير إشهار إفلاسها وبيعها، ثم تعلن فيما بعد براءتها من الجريمة التي دبرتها في جلسات مكاتبها المغلقة بمشاركة من يفترض فيهم الغيرة على المهنة والدفاع عن حريتها واستقلاليتها".




الوضع الذى تعيشه مؤسسة "سنيب لابراس" تشهده أيضاً مؤسسة عريقة أخرى هي "دار الصباح" التي تأسست عام 1951، وتصدر ثلاث صحف؛ يوميتين "الصباح" باللغة العربية و"لوطون" Le Temps التي تصدر باللغة الفرنسية، وأسبوعية هي "الصباح الأسبوعي".
فهذه المؤسسة ومنذ مصادرتها عام 2011 من محمد صخر الماطري، صهر الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، تعيش أوضاعاً مالية صعبة جعلت الحكومة التونسية تعلن نيتها في بيعها، كما تعاني أزمة إدارية تمثلت في تعيين مسؤولين لا يحظون برضا الفريق العامل فيها، ما اعتبروه خطوة في اتجاه بيعها بكل الطرق الممكنة، الأمر الذي ترفضه النقابات (النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين والنقابة العامة للإعلام التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل)، ووتّر الأجواء داخل المؤسسة.
وقد عبرت أبرز صحافيات "دار الهلال"، حياة السايب، عن الوضع الراهن بالقول: "نحن اليوم في مؤسسة إعلامية وطنية هامة ليس لدينا أدنى المقومات التي تضمن لنا ممارسة المهنة كما تمليه القوانين وتفرضه الأخلاقيات وآداب التعامل لسبب واضح أنه تم وضع اليد على هذه المؤسسة التي يقع التصرف فيها وفق الأمزجة لا وفق الكفاءة ومصلحة المشهد الإعلامي"، مضيفة "ونحن اليوم نخشى أن يضيع هذا المعلم الإعلامي الهام في زحمة الأطماع والأجندات الخاصة والعقليات التجارية البحتة، لا سيما أن المؤسسة معدة للبيع، وهي تعد لذلك بطريقة لا شيء فيها يوحي أننا إزاء مؤسسة إعلامية عريقة ومعلم من معالم البلاد، بل كأننا أمام سلعة عادية بل مبتذلة معدة للبيع".
هذه الوضعية إذا تواصلت فإنها قد تؤدي إلى انهيار أقدم مؤسستين إعلاميتين فى تونس، وهو ما قد يشير إلى سكرات الموت أو الموت الإكلينيكي الذي تشهده الصحافة الورقية اليوم في تونس، فمن سيتكفل بمنحهما جرعة من الأكسيجين تنقدهما من الموت المفترض؟
في هذا الإطار، حاولت الحكومة وبالاتفاق مع "جمعية مديري الصحف" إيجاد حل، من خلال إعفاء هذه المؤسسات من بعض ديونها خاصة للصناديق الاجتماعية التي تعدّ بملايين الدنانير التونسية، والتفكير في إطلاق هيكل مستقل لتوزيع الإعلانات التجارية الحكومية، وزيادة عدد الاشتراكات التي تقتنيها الوزارات والمؤسسات الرسمية من هذه الصحف الورقية.
ورغم الإعلان عن هذه القرارات منذ أكثر من سنة ونصف سنة، إلا أنها لم تفعّل عمليا بالشكل الكامل، مما زاد في تعقيد الوضعية المالية لهذه الصحف الورقية التي تراجعت فيها مداخيل الإعلانات التجارية، إذ قدرتها مؤسسة "سيغما كونساي"، المختصة في سبر الآراء وقياس نسب الاستماع والمشاهدة، عام 2017 بـ 16.2 مليون دينار تونسي (حوالي 6.75 ملايين دولار أميركي)، وهو رقم ضعيف جداً مقارنة بمداخيل باقي وسائل الإعلام من الإعلانات التجارية.
هذا التراجع في مداخيل الإعلانات التجارية يفسره البعض بقرار الحكومة سنة 2011، بعد الثورة، بحل وكالة الاتصال الخارجي التي كان من ضمن مهامها الإشراف على توزيع الإعلانات التجارية الرسمية، لكن منذ حلّ هذه الوكالة أصبحت إدارة الإعلانات التجارية الرسمية تتسم بالاعتباطية والعشوائية. يضاف إلى كل ذلك ضعف إقبال القارئ التونسي على الصحف الورقية، إذ لا يتجاوز عدد المبيعات اليومية من الصحف الورقية مائة ألف نسخة، وفقاً لرئيس "جمعية مديري الصحف"، الطيب الزهار، وهو رقم ضعيف جدا لا يساعد على محافظة هذه الصحف على استمراريتها.




أما ضعف إقبال التونسي على اقتناء الصحف الورقية فيرجعه المختصون إلى منافسة المحامل الإلكترونية للصحف الورقية وكذلك ضعف المضامين الإعلامية التي تنتجها مما يجعل الإقبال عليها محدوداً.
أسباب متعددة لتراجع الصحف الورقية، لكن بات من المؤكد اليوم أن مئات الصحافيين والتقنيين العاملين في هذه المؤسسات يهددهم شبح البطالة في سوق عمل ذات قدرات محدودة في استيعاب خريجي معهد الصحافة وعلوم الأخبار، إذ يشهد القطاع الإعلامي ارتفاعاً كبيراً في عدد العاطلين من العمل وهشاشة في الوضعيات الاقتصادية والاجتماعية لمن يعملون في بعض الصحف، الأمر الذى اعتبرته النقابة الوطنية للصحافيين في تقريرها عن الحريات الصحافية في تونس لسنتي 2016 و2017 أكبر خطر يهدد حرية الصحافة في البلاد، لذلك دعت كل الأطراف إلى الانتباه إلى ذلك والعمل على إيجاد حلول عملية لمعضلة الصحف الورقية وباقي المؤسسات الإعلامية التونسية.
ورغم أن الوضع الحالي يتسم بالإغراق في السوداوية، يبقى بصيص من الأمل يعيش على وقعه العاملون في قطاع الصحافة الورقية يتمثل في الضغط من قبل النقابات على الحكومة التونسية لإيجاد مخارج ممكنة للأزمة التي يعيشها القطاع منذ سنوات.