مانيانفيل: "فيسبوك"... شاهد على الجريمة

15 يونيو 2016
صحافيون في مانيانفيل (Getty)
+ الخط -
قد تكون الجريمة التي ارتكبها عبدالله العروسي في مانيانفيل، غربِ العاصمة الفرنسية باريس، في ظل هذا البحر من الدماء الذي يغمر العالم من أقصاه إلى أدناه، واحدة من عشرات الجرائم، بل المئات، التي تمرّ على شاشات التلفزة وفي صفحات الجرائد بشكل شبه يوميّ، من دون أن يعير العارفون والمتبصّرون بأحوال الضحايا اهتمامًا يوازي حجم الصدمة.

لكنّ الصدمة ستتولّد هذه المرة في انقطاع المتلقّي عن حياته الاعتيادية لينتبه إلى أنّ المذبحة تُبثّ بشكل مباشر على الهواء، لا يثنيها عن الاستمرار هدف إيطالي في مرمى بلجيكا، أو إضاءة شموع لمتضامنين مع ضحايا أورلاندو، أو سهرة فنية لفنان هنا أو هناك.. فالتصوير المباشر الذي أتاحه "فيسبوك" جعل من الـ video live إطار نقلٍ، يشدّ المتصفحين ليشكّل فاصلاً يؤسّس لتوثيق آني للحدث المنقول، يعلّق عليه بعضهم ويعجب به بعضهم الآخر ويشاركه آخرون على صفحاتهم.

في تمام الساعة التاسعة إلا خمس دقائق، من ليل الاثنين، تمكّن دايفيد تومسون، الصحافي المتخصّص بالمسائل الجهادية الإلكترونية، من رصد أحد أصدقاء عبدالله على "فيسبوك" ويدعى محمد علي (وهو حساب وهمي يعود لعبدالله نفسه) في حالة بثّ مباشر من داخل أحد المنازل الفرنسية، واستطاع تومسون نقل محتوى الفيديو على شكل تغريدات على تويتر.

القاتل الذي بدا هادئًا ومبتسمًا في الشريط المباشر، وجّه رسالةً طويلة مدتها 13 دقيقة يرجّح أنها معدّة سلفًا، بدأها بمبايعة أبو بكر البغدادي (زعيم تنظيم داعش) ودعا فيها إلى قتل رجال الشرطة وحرّاس السجون والصحافيين ومغنّي الراب الذين عدّد بعض أسمائهم.

ومن بين ما ذُكر في الشريط قول عبدالله إنّ "هذا العمل المبارك يأتي تلبية لنداء الشيخ العدناني" (المتحدث باسم تنظيم داعش). وفيما كان عرض مشاهد الضحيتين الشرطي وزوجته التي تعمل في وزارة الداخلية كشرطية أيضًا، يقطع "محمد علي" الهدوء الذي ساد لحظات ليقول إنّ "اليورو سيكون مقبرة للأوروبيين"، في إشارةٍ إلى احتمال وقوع هجمات جديدة خلال بطولة الأمم الأوروبية.

على الكنبة، حيث يظهر طفل الضحيتين البالغ ثلاث سنوات، يجلس القاتل في حيرة ويقول "لا أعرف ماذا سأفعل به"، لينتقل لاحقًا إلى غرفة أخرى، مستمراً في إطلاق التهديدات التي طاولت الدولة الفرنسية ونظامها. الفيديو المصوّر حصل على 98 مشاهدة خلال 11 ساعة، قبل أن تحذفه إدارة فيسبوك، رغم محاولة صحيفة "لوموند" الحصول عليه، وسعيها للاتصال بتويتر بعد عرض عبدالله لصور الضحايا على حساب تم افتتاحه في الثامن من الشهر الماضي، إلا أنها قوبلت بالرفض تحت حجة "رفض الدفاع عن أي محتوى يروّج للإرهاب".

والحال أنّ الظهور الفيسبوكي لـ"الجهاديين الأوروبيين"، وتبنّي الفعل مباشرة من مسرح الأحداث هو "جزء من الانتقال السريع والمنهجي إلى الإعلام الموجّه الذي يهدف إلى التوثيق أولا ويعمد إلى ربط التبني الشفهي بالصورة الدلالية"، هكذا يقول ماتيو غيديير المتخصص في قضايا الجهاديين الأوروبيين في مقابلة أجرتها معه "فرانس انتر". ويضيف غيديير "الإعلام اليوم يشكّل حجر الزاوية في قيامة أي مشروع، والحالات الجهادية تعرف تمامًا مدى أهمية شبكات التواصل وقدرتها على التأثير".


عبدالله العروسي، الذي كان يدير مطعما في مدينة مانيانفيل، كان يظهر بشكل دوري على صفحته فيسبوك ويبث شعارات دعائية لمطعمه "Dr.Food" ليغيّر صورته الشخصية في 26 مايو/أيار ويضع شاشة سوداء ثم يعود يوم المجزرة ليضع صورة شعار يورو 2016. هو يبدو شخصًا عاديًا لا يقرب التطرف ولا "الجهاد"، في حين تؤكد التحقيقات أنّ عبدالله البالغ من العمر 25 سنة، "بدأ يتحول إلى الراديكالية سنة 2010 وذهب في مهمة جهادية إلى باكستان في العام نفسه".

ويعيد بعضهم فعل الممارسة الدورية للظهور على شبكات التواصل بشكل يبعد الارتياب إلى معرفة "الجهاديين" المسبقة بالمراقبة التي تفرضها الدولة عليهم وعلى حساباتهم على شبكات التواصل الاجتماعية. وفي الأمر ما يعيد تذكيرنا بقصة العقل المدبّر لهجمات باريس في نوفمبر الماضي، عبد الحميد أباعود، الذي كان يظهر مرارًا على فيسبوك ليعرض حياته، ومنها "الفصول الجهادية السورية"، ثم يختفي فجأة في حركة لإيهام المراقبة أنه قد مات في سورية.