عبد الرحمن منصور: لم ننتصر.. ولم ينتصروا أيضا

25 يناير 2016
عبد الرحمن منصور (فيسبوك)
+ الخط -
كان كل شيء يسير وفق الخطة المرسومة: التوريث، القمع، الفساد، الانفجار الطائفي، وكل هذا تحت غطاء متقن من مسرحية "دولة القانون والمؤسسات". فجأة انسحقت خشبة المسرح تحت الثِقل الفج والموجع لصورة جثة مشوّهة بآثار التعذيب: اسم الشاب خالد سعيد، واسم الدولة/المسرحية مصر. هنا تبدأ "الحدوتة"، حين قرّر شابان مصريان أن بلادهما لم تعد قابلة للعيش، فأطلقا الصفحة التي باتت الأشهر في تاريخ "فيسبوك" في العالم العربي: كلنا خالد سعيد. كان اسم الشابين وائل غنيم وعبد الرحمن منصور.

*****

طيّب سنبدأ القصة من الكورنيش، أي كورنيش مصري: القاهرة، الإسكندرية، المنصورة، دمياط.. هناك حيث تجمّع في يونيو/حزيران 2010 للمرة الأولى شباب بقمصان سوداء يديرون وجوههم للبحر/النهر يعلنون بوقفة صامتة تضامنهم مع خالد سعيد. كان هذا أول نشاط للصفحة، وبعده تعددت الفعاليات وتنوعت، كالدعوة لكتابة اسم خالد سعيد على أوراق الانتخابات، أو تنظيم وقفات تضامنية أمام الكنائس بعد تفجير الإسكندرية.


الشرارة الصغيرة أشعلت نار الغضب بسرعة مذهلة. مئات، آلاف، عشرات الآلاف، مئات الآلاف... ملايين، "كان الناس ينضمون إلينا ولا نعرف ماذا سنفعل بكل هؤلاء" يقول منصور. في 28 ديسمبر/كانون الأول 2010 اقترح عبدالرحمن على وائل فكرة التظاهر يوم عيد الشرطة في 25 يناير، لم يكن يعرف أنه بينما يفتح "الإيفنت" تحت اسم "يوم الشرطة في مصر"، كان يفتح في اللحظة ذاتها باب التاريخ. ثم جاءت صيحة "بن علي هرب" لتفتح شهية المصريين فوصلت رسائل من أعضاء الصفحة تدعو لأن تكون هذه المرة مختلفة، وهكذا غير وائل غنيم اسم "الإيفنت" في 14 يناير إلى "ثورة على التعذيب والبطالة والفساد والظلم".




*****
لكن عبدالرحمن منصور لم يكن هنا. يوم 17 يناير/كانون الثاني، حمل أغراضه والتحق بالخدمة العسكرية الإلزامية. كان قلبه يتقافز بينما يتابع الأحداث اللاهثة بصعوبة على "الراديو". جمعة الغضب، موقعة الجمل، جرحى، معتقلون، شهداء... ثمّ التنحي. "كنت في نوبة حراسة، سمعت خبر التنحي، وبكيت". بينما يبكي قاطعته ضحكة ضابط يقول بصوت مرتفع: "الآن وأخيراً سنحكم مصر".

*****
أنتم ترددون شعارات عاطفية من دون طرح بديل أيها الشباب الطيب البريء/ التافه. يؤكد عبدالرحمن أن هذا الخطاب بدأ منذ اللحظة الأولى بشكل يتعمد زرع هذه الصورة النمطية في عقول الناس. "لا يوجد أي ملف في الدولة إلا وقدمت الثورة له بديلاً جاداً، عشرات الأوراق ومشاريع القوانين قدمتها المراكز الحقوقية وبرامج الأحزاب الجديدة وباحثون شباب، مثلاً مبادرة شرطة لشعب مصر في نهاية 2011، أو مشروع قانون حرية تداول المعلومات، أو مشروع قانون منع تضارب السلطات، أو رؤى اقتصادية جديدة". كما شارك الشباب بالعمل السياسي وبالأنشطة الطلابية والاحتجاجية. يعترف عبدالرحمن بتأخر تأسيس الأحزاب الجديدة، لكنه يرى بعض الأسباب خارجة عن إرادة الشباب.


*****

لكن "الحدوتة المصرية" ازدادت تعقيداً. خلافات وتجاذبات بعهد المجلس العسكري، ثم المزيد بعد انتخاب محمد مرسي. "مرسي نكث بوعده معنا، ممثلو القوى الثورية الرئيسية كلها وقعوا معه على ما عرف باسم "اتفاق فيرمونت"، وكلها كانت تعهدات محددة تخص التوافق الوطني وليس مصلحة أي شخص أو تيار، وعلى أساسه حظي بدعمنا ضد شفيق، وفاز بالكاد بـ51% من الأصوات، لكن بعد الرئاسة تبخر ذلك تماماً" يقول عبد الرحمن منصور مشيراً إلى أن الاستقطاب الإسلامي العلماني، كان أكثر ما هزم الثورة من داخلها.



*****

في 28 يونيو/حزيران 2013 شاهد عبدالرحمن في التحرير من يوزع صوراً للرئيس المخلوع مبارك. عاد إلى منزله غاضباً ليكتب: "هذه ليست ثورتنا"، لكنه مع ذلك شارك في مظاهرات 30 يونيو. لماذا تشارك في حدثٍ أصابك ببعض الشكوك؟ "كان الوضع متأزماً جداً، وتمت تعبئة الشارع ضد قوى الثورة باعتبارهم المتسببين في وصول مرسي للرئاسة، كانت فرص الحل قد ضاعت، وآخرها مبادرة عاقلة من المبعوث الأوروبي في أبريل/نيسان وافق عليها زعماء جبهة الإنقاذ والدكتور سعد الكتاتني قبل أن يأتي الرفض من جانب مرسي، عرفت أن استمرار ذلك لا يحمل إلا أحد مصيرين: عنف أهلي واسع شاهدنا بدايته في أحداث أليمة مثل الاتحادية، أو تدخل الجيش، كان طوق النجاة أن يستجيب الرئيس مرسي لطلبٍ شعبي بعقد انتخابات مبكرة، وهو إجراء دستوري تماما".

هل تشعر بالندم؟ "لا أحد يعرف المستقبل، وفي النهاية ثورة يناير نفسها سقط بها حوالي 1000 شهيد ولم تحقق نتائجها، هل أعتبر نفسي مسؤولاً وأندم عليها بدورها؟ المواقف السياسية بشكل عام تحتمل الخطأ والصواب، لكن المؤكد أني لم أتخذ أي موقف إنساني أندم عليه، لم أحرض أبداً على دماء ولم أشمت في إنسان، قد تفتقد الثورة إلى القوة أو حتى إلى البوصلة السياسية، لكنها أبداً لا يمكن أن تفتقد الموقف الأخلاقي، إذا فقدته تتحول إلى أي مسخ آخر ".
"الحدوتة" لم تنته. هذا ما يعرفه جيداً عبد الرحمن منصور. فبعد مجزرة رابعة العدوية، سافر لإكمال تعليمه في الولايات المتحدة.. ولم يعد. غالباً لن يعود قريباً إلا مع فصل جديد في الحكاية.



*****

"المصالحة الوطنية" كلمة تبدو مبتذلة بسبب كثرة تكرارها، لكن لا بديل عنها في رأي عبدالرحمن: "أهم ما يجب أن تعلمه السنوات الخمس الماضية للجميع بلا استثناء هو أنه لا يمكن إقصاء أي طرف تدعمه شريحة من الشعب، هناك ملايين المصريين المؤيدين للسيسي والنظام الحالي وملايين أخرى مع مرسي أو الثورة أو حتى دولة مبارك القديمة. مادمنا لم نكتشف سحراً يُخفي من لا يعجبنا سيبقى الجميع موجودين، ولا بديل عن مصالحة وطنية تضع أساساً لحياة 90 مليون مواطن معاً، تقديري للأسف أنها ستكون مصالحة المهزومين، تأتي بعد خسائر لكل الأطراف."

 *****


لا يردّد عبد الرحمن منصور كليشيهات عندما يقول: "الثورة مستمرة أردنا أم لم نرد"، يعطي أمثلة: "ميزة الثورة أنها اجتذبت أعداداً كبيرة من غير المسيسين إطلاقاً قبلها. شباباً وفتيات، طبقة وسطى وفقراء ومهمشين، كلهم دخلوا اللعبة"

يشعر بالتفاؤل الشديد حيال الجيل القادم: "الشباب الذين شاركوا في الثورة وهم في أولى ثانوي، باتوا اليوم في الجامعات، وقد فازوا بانتخابات اتحاد طلاب مصر". الثورة المضادة لم تنتصر. والأمثلة كثيرة جداً برأي منصور. حتى حركة  "تمرد" فشلت في جذب أي من الشباب الذين كانوا من أركان 25 يناير، وتعرضت لانشقاقات داخلية. لكنّ منصور يتخوّف من راديكالية الثورة المضادة، والعنف الذي لا تتردّد باللجوء إليه: "إنهم يأخذوننا إلى مكان تفاديناه، لكن هذا الأسلوب سيهزمهم في النهاية".

وماذا عن إسقاط النظام وإسقاط الرئيس الحالي؟: "السيسي ممثل لعملية اتفاق سياسي بين الدولة القديمة والجيش، لكن في النهاية أي اتفاق يصبح ثمن بقائه أكثر من ثمن تحقيق هدفه يطاح به.. والسيسي لن يكون أغلى من مبارك لو حدثت هبة شعبية أخرى".


*****

"لم ننتصر.. لم ينتصروا.. ولم يُهزم الأمل" كتب عبد الرحمن منصور في مايو/أيار الماضي، ليضيف في نهاية رسالته: "كلما اشتد ضيق الأزمة أتذكر معجزة 25 يناير". وهو ما يكرره في حديثه مع "العربي الجديد": "في 25 يناير كنا نستكشف مصر، نحن لا نزال نستكشفها، لكن الأكيد ألا مستقبل لمصر من دون يناير... لا مستقبل للعالم العربي من دون الثورات العربية" .





اقرأ أيضاً: تويتر يوقد شعلتها الخامسة: "#أنا_شاركت_في_ثورة_يناير"
المساهمون