بروباغندا "داعش": التنظيم يتجمّل في مناطقه

21 نوفمبر 2015
تنفيذ حكم بحق أحد المدنيين (تيليغرام)
+ الخط -
وجه آخر لتنظيم الدولة الإسلامية لم يحظَ إعلاميًا بما يستحق من قراءة وتمحيص، رغم أنه مهم في تفسير سلوكيات التنظيم وفهم توجهاته، وهو إدارته للمناطق التي يسيطر عليها، خاصة المدن الكبرى، كالرقة، والفلوجة، والموصل، وتصويره هذه الإدارة إعلاميًا.

بالتأكيد هذه الصورة "الإدارية" ليست غائبة كليّة، إذ تظهر أحيانا بشكل عابر هنا أو هناك في بعض وسائل الإعلام، ولكنّ هناك حرجا دائما من الإشارة إليها بشكل مستقل وواضح، وتحليلها، باعتبارها قد تمثل بصورة ما دعما للدعاية (البروباغندا) التي يقدمها التنظيم عن نفسه، عبر أذرعه الإعلامية الكبرى.

وسائل الإعلام تركز غالبا على جوانب العنف في التنظيم، لأنها صادمة وغير معتادة، ويتفنن التنظيم في إظهار توحّشه بشكل غير اعتيادي كاستراتيجية عسكرية لبث الرعب، وكان ناجحاً في هذا. لكن فهم هذا التوحش، يبقى ناقصا، إذا لم نعرف بدقة كيف يتعامل التنظيم مع البشر تحت حكمه من ناحية، وكيف يظهر هذا التعامل من خلال قنواته الإعلامية من ناحية أخرى، من أجل استقطاب مزيد من المقاتلين، والداعمين، والمتعاطفين.

وأتاحت مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي، خاصة تطبيق "تيليغرام"، فرصة للتنظيم لتسويق نفسه بالصورة التي يراها، من خلال مزج قسوته وعنفه مع جانب آخر (مهمل عادة) يتعلّق بالحياة اليومية في المناطق التي يهيمن عليها. واستخدم التنظيم شبكة الإنترنت لثلاث مهام رئيسية: جمع التمويل، واستقطاب المقاتلين، ونشر الدعاية الخاصة به. وهذه العناصر الثلاثة الرئيسية متداخلة، وتخدم بعضها البعض.

اقرأ أيضاً: في الرقة السورية مدنيون "يذبحون بصمت"

يحاول تنظيم داعش، من خلال الصور التي يبثها من الرقة والفلوجة والموصل ومنبج وغيرها، أن يظهر بأن عناصره ناجحون في إدارة الحياة اليومية. فيظهر على سبيل المثال، محالا تجارية تستعد لموسم البرد الحالي، من خلال عرض ملابس شتوية، أو يحاول نشر صور باصات نقل عام تخدم المدن، أو صور لمحال بيع وإصلاح ساعات، أو جمع "أموال الزكاة" وتوزيعها على المحتاجين، أو توزيع مواد غذائية... مما هو يومي ومعتاد في حياة أي مدينة "طبيعية".

بالتأكيد إن هذه الصورة مخاتلة، ولا تخلو من مفارقات، فمثلا، في احتفالات التنظيم بالهجوم الإرهابي على باريس قبل أيام، نشر صورا لمسلحين ملثمين يوزعون الحلويات على السكان، احتفالا بالهجوم. وتبدو هذه الصور شديدة التعبير عما نتحدث عنه: فالحدث هو احتفال بالقتل (قتل أبرياء)، والفعل توزيع حلويات (بكل ما يرمز إليه من رقة وفرح وعذوبة)، ومن يُوزع "الحلويات" شخص ملثّم، يحمل السلاح على كتفه، في هيئة مخيفة، تجعل الشخص يأخذ الحلويات منه وهو يرتجف، والخوف هنا هو المعنى الحرفي المضاد للاحتفال. هذه الصورة المخيفة المتناقضة يمكن اعتبارها رمزا لفهم داعش إعلاميا، في ثنائية: توفير الخدمات، وإخضاع السكان بالعنف.

تفيد بعض التقارير بأن توفير الخدمات الأساسية في مناطق داعش، أفضل منه في مناطق أخرى في سورية والعراق، وهذا يعني أن الصور التي يبثها عن الحياة اليومية في مناطقه، تعكس شيئا موجودا ولو بشكل جزئي، يتم تضخيمه من قبل أذرع التنظيم الإعلامية لأغراض الدعاية بطبيعة الحال، ولكن الصورة ليست كاملة.

اقرأ أيضاً: الإرهاب يضرب مالي: نقل المعركة ضد فرنسا إلى الخارج؟

في الفيلم الوثائقي "ثائرة من الرقة"، صوّرت الشابة السورية هيا العلي ما أطلقت عليه اسم "المطبخ الإغاثي"، حيث يصطف الناس في طوابير من أجل تناول الطعام في الشوارع. بل قالت العلي، وبصيغة صادمة بعض الشيء، وهي الهاربة من جحيم داعش إلى باريس: "النظام اللي ماشيين عليه (داعش) ما هو سيئ، هم جالسون يكسبون الناس بهذي الطريقة".

لكنّ التنظيم أيضاً يستخدم السكان في المدن التي يسيطر عليها كدروع بشرية، فيمنعهم من مغادرة هذه المناطق، بل يستخدم الأحياء السكنية لإطلاق صواريخ، ما يتسبب في قصف تلك المناطق وقتل السكان الأبرياء. كما أن التنظيم يضرب بقسوة في حال شكوكه بأي "خيانة" من السكان. وفرض داعش على المناطق التي يسيطر عليها أحكاما قاسية، ليفرض هيمنته على المجتمع، من خلال فرض معايير معينة للحياة واللباس وغيرها. فعلى سبيل المثال، من يدخن السجائر في الفلوجة بشكل علني سيتم تنبيهه أول مرة، وفي حالة تكرار التدخين، فيجب عليه أن يدفع غرامة للتنظيم، وفي المرة الثالثة يحكم بقطع إصبعه. كما تمت مصادرة العديد من البيوت، هذا بالإضافة لوضع معايير محددة على لبس النساء، ومن أي مظهر علني لما يسميه "مجاهرة بالمنكرات".

تحوّل حضور داعش الإعلامي إلى كابوس، إن كان للحكومات التي تحارب التنظيم، أو للأفراد العاديين الذين يخشون على أقاربهم الخضوع لدعاية التنظيم، خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تعتبر عدم خضوعها لرقابة مركزية، عصبا أساسيا لحياتها وجذبها للمستخدمين.

منذ 2014، بدأت هذه السياسات تتغيّر، فقام "فيسبوك" بحظر الصفحات التي تروج للتنظيم مبكرا، ثم وبشكل أكثر صعوبة، بدأ موقع تويتر بمواجهة الحسابات التي تروج لداعش. فقام تويتر بإغلاق عشرات الآلاف من الحسابات التي تروج لداعش. كما قام موقع اليوتيوب بحجب الفيديوهات التي يبثها.

اقرأ أيضاً: "أنونيموس" تتّهم شركة الأمن الإلكتروني "كلاود فلير" بمساعدة "داعش"

لكن أداة جديدة وفعالة أتاحت للتنظيم التواصل مع جمهور متنوع، بدون رقابة، من خلال تطبيق "تيليغرام"، حيث أتاحت خاصية القنوات المغلقة إنشاء قنوات تواصل، يتم من خلالها إرسال روابط وصور وفيديوهات لمستخدمين على نطاق واسع. وعندما تم سؤال القائمين على تيليغرام حول هذا، كانوا يجيبون بأنهم حماية الخصوصية، ولن يقوموا بتعليق أو حجب تلك القنوات، حتى لو استخدمها تنظيم داعش للترويج عن نفسه، وبث الدعاية.

هذا الإصرار على "حماية الخصوصية" لم يستمر، حيث أعلن تيليغرام، يوم الأربعاء الماضي، وبعد تفجيرات فرنسا، أنه قام بحجب 78 قناة لتنظيم داعش، كانت تبث بـ12 لغة.
وجاء في الإعلان: "نحن، في تيليغرام، منزعجون من استخدام تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) للقنوات العامة لنشر فكرهم ونشاطهم". كما أعلن عن عدة وسائل لتلقي البلاغات حول قنوات داعش، من أجل محاصرتها وإغلاقها، وهذا ما حدث فعلا. وللخروج من الحرج، قام تيليغرام بتقسيم القنوات إلى خاصة وعامة، وتعهّد بحماية خصوصية القنوات الخاصة، في مقابل أنه سيستقبل البلاغات حول القنوات العامة، ويغلقها في حال ثبوت أنها تروج للتنظيم. وقرر بأنه سيسهّل عملية البلاغات في تحديث التطبيق القادم.

هذا الإجراء سيحاصر التنظيم نوعا ما، حيث كانت هناك عشرات القنوات التابعة له بلغات مختلفة، تحوي بعضها أكثر من 10 آلاف مشترك، يتلقون رسائل التنظيم على مدار الساعة. هذا بالإضافة إلى الحرب الإلكترونيّة التي أعلنتها مجموعة "أنونيموس" الأشهر للقراصنة على التنظيم بعد اعتداءات باريس. لكنّ هذا لا يعني بأي حال من الأحوال توقف التنظيم عن بث دعايته، فما زال حضور التنظيم في تويتر وتيليغرام وعبر رسائل تطبيق الواتساب كبيرا وفاعلا.


اقرأ أيضاً: لماذا على المسلمين ألا يعتذروا عن اعتداءات باريس؟