الإعلام السوري: كيف تصنع نشرة أخبار كاذبة؟

29 أكتوبر 2014
يُشاهد خطاب الأسد عبر الإخباريّة السوريّة (فرانس برس)
+ الخط -
في ثمانينيّات القرن الماضي، وخلال اجتماع بين أعضاء في حزب البعث الحاكم في سورية، وبعض الكتاب والمثقفين السوريين، قال الشاعر الراحل ممدوح عدوان إنّ "الإعلام السوري يكذب حتى في النشرة الجويّة". 
وظلّت صفة الكذب مُلازمةً للإعلام السوري، وخصوصاً في نشراته الإخباريّة، حتى باتت مثار سُخرية الشارع. بل يكاد المراقبون يجزمون أنّ نصف الشارع السوري قبل الثورة لم يكُن يتابع نشرة الأخبار، وربّما لا يعرف حتى موعدها، فهي نشرة "استقبل وودّع".... هذه العبارة لا تختصر نشرة الأخبار فحسب، بل الصورة العامة للإعلام الحكومي الذي يحتفي بالرئيس وإنجازاته ولقاءاته.

الرئيس المقدس
بعد اندلاع الثورة الشعبية ضد حكم الرئيس السوري، بشار الأسد، كان الإعلام واحداً من الأركان الأساسيّة التي طالب المتظاهرون بإسقاطها من ضمن بُنية الحكم، فرفعوا لافتاتٍ تصف هذا الإعلام بالكذب والتلفيق.
عمد الإعلام السوري بشقّيه الحكومي، والخاص المتمثل بقناة "الدنيا" الفضائيّة، إلى تحريف الحقائق وتزييف كل ما تشاهده العين المجردة. فلم يكتف بأن اعتبر، في حادثة شهيرة، القتلى الذين سقطوا في مدينة دوما على أيدي قوات الجيش ممثّلين قاموا بوضع سائل أحمر على
وجوههم، بل إنّه سعى جاهداً لتأليف أخبار متلاحقة عن مخططات واجتماعات تتمّ في دول عديدة للإيقاع بسورية "الصمود والتصدي" والنيل من هيبة الدولة.
وكانت نشرة الأخبار الرئيسيّة على الفضائيّة السوريّة منصّة لعمليات التأليف الفاشل للقصص التي كانت تُصاغ من قبل بعض المختصين الذين يعملون في أجهزة المخابرات السورية، والذين ظهروا في ما بعد تباعاً على شاشة "الفضائية السورية" نفسها، ومعها "الإخبارية" وتلفزيون "الدنيا" بصفة محللين سياسيين، لطرح رؤيتهم بشكل علني، بعدما كانت تمرر من خلال النشرات الإخبارية.
ولم تستطع الفضائية السورية رغم البهرجة التي لحقتها، أن تكتسب جمهوراً يُصدّقها، فهي ما زالت تُحافظ على أولويّاتها في ترتيب أخبارها، فهي تبدأ بـ "استقبل وودّع" ثم يتمّ ترتيب الأخبار اللاحقة بشكل أقرب إلى العشوائيّة وفق ما يخدم التوجّه السياسي للسلطة دون أيّ مراعاة للمهنيّة، فيتم الحذف والإضافة كيفما اتُّفق. هكذا، لم يعُد مستغرباً في الحالة هذه، أن يتصدّر خبر لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، نشرة الأخبار على "الفضائيّة السوريّة"، في الوقت الذي يكون فيه أحد أحياء العاصمة دمشق قد شهد انفجاراً أو "عمليّة إرهابيّة"، حسبما يرد في الإعلام السوري بشكل عام.
على سبيل المثال، تأخّر خبر التفجير الذي طال منطقة القصاع وسط العاصمة دمشق، ليحلّ خامساً في نشرة الأخبار، بعد خبرين عن استقبال وتصريح للرئيس السوري، وكذلك تصريح لمندوب روسيا الدائم في مجلس الأمن، فيتالي تشوركين، وخبر رابع يتحدث عن مقال لصحافي
فرنسي يكشف أبعاد المؤامرة الكونيّة التي تتعرض لها سورية. هذا، مع أنّ خبر التفجير الذي ضرب منطقة القصاع هو أهم من حيث القيمة الخبرية والسياسية من الأخبار التي تقدمته.
فما الذي يلعب دوراً في ترتيب الأخبار؟ ومن يقرر أهمية كل خبر؟ لعلّ الإجابة على السؤال واحدة من المعضلات التي تواجه أي مُنتِج للنشرة الإخبارية في التلفزيون السوري، فهو يقف حائراً أمام الأولويات التي يجب أن يتعاطى معها، فهو لا يجرؤ مثلاً على تجاهل خبر "السيد الرئيس" ووضعه ثانياً أو ثالثاً. فالعادة تقول إن أخبار "سيادته" دائماً تأتي أولاً، وبناءً عليه فإن الأخبار الأخرى، مهما كانت أهميتها يتم توزيعها بشكل عشوائي، وكيفما اتفق ولعل المراقب للنشرة الإخبارية يستطيع تبين هذه الحقيقة بسهولة، فتوجيهات (السيد الرئيس ليست خبراً ينشر ويذاع ليوم ثم ينسى في الأيام الآتية)، كما جاء في تنبيه من قبل المجلس الوطني للإعلام عقب قيام وسائل الإعلام السوريّة بإذاعة خبر عن اجتماع الأسد بكوادر فرع دمشق لحزب البعث العربي الاشتراكي. وقد أثار هذا التعامل حفيظة المجلس الوطني للإعلام، فوجّه تقريعاً شديد اللهجة لوسائل الإعلام وطالبها "بالقيام بالتحليل العلمي لتوجيهات الرئيس واعتمادها كمنهج عمل وهوية أسلوب، وذلك إخلاصاً للروح الحضارية السورية الحية، طالما اعتمدناها ومارسناها، إنه الطريق الوطني لتحقيق سوريتنا وحضارتنا الحية دائماً". وهذا البيان لا يزال موجوداً ويمكن قراءة نصّه الذي وجّهه المجلس الوطني للإعلام كاملاً على الموقع الإلكتروني للمجلس في جلسته المنعقدة بتاريخ 3/3/ 2014.
ولعلّ الذين عملوا في الإعلام الحكومي السوري يذكرون التوصية التي يتلقونها في بداية عملهم والتي تنص على الآتي: "خبر السيد الرئيس مقدس، والباقي يتم التباحث بشأنه"... هكذا حرفياً.
وتأسيساً على هذه القاعدة المتفردة في العمل الإخباري، فإنّ مقتل ثمانين سورياً من الموالين للأسد، هو خبر عادي ويمكن تأخيره، أما اجتماع الأسد مع نائب وزير الخارجية الإيراني على سبيل المثال، فهو حدث استثنائي، لأنه قد يتضمن "منهاج عمل"، بناء على توصية المجلس الوطني للإعلام.

الخبر المطاطي
إلى ذلك، يُمكن أن يلاحظ متابع نشرات الأخبار اليومية أنّها تعتمد ما يمكن تسميته "الخبر المطاطي". أي ذلك الخبر الذي لا يمكن التكهن بمحتواه، فعلى سبيل المثال، يُطالعنا يومياً خبر على الشكل التالي: قامت مجموعة من "بواسلنا الأبطال" بتدمير عدد من الآليات التابعة "لأحد التنظيمات الإرهابية" في منطقة كذا، وقتلت عدداً من أفراد "المجموعة" فيما لاذ الباقون
بالفرار.
وهذا الخبر بصيغته هو خبر لا يُقدّم أيّ معلومة لا عن عدد القتلى ولا عن عدد الفارين، ولا عن ماهيّة تلك المجموعة، ولا أي شيء آخر، فهو مطاطي قابل لكل الاحتمالات والتأويلات، لأن مقاطع الفيديو التي يتم إرفاقها عادة بمثل هذا النوع من الأخبار تكون أرشيفية، وقد تستخدم لأكثر من خبر في نشرات متلاحقة.
ويعتمد التلفزيون السوري لغةً أقرب إلى اللغة القصصيّة في صياغة بعض الأخبار، وهذا الأمر منافٍ كلياً لأي قاعد مهنيّة. فليس مستغرباً أن يبدأ الخبر على الشكل التالي: "هنا بلد الحضارة، هنا بلد الشمس، والأبجدية، هكذا يريد المتآمرون تغيير هويتها....". والخبر هنا لا يبتعد فقط عن طبيعته، لكنه يميل أيضاً إلى أن يتحول إلى قصة وجدانيّة، تستجدي المشاعر والعواطف، فيما لا تتضمن بنيته أي معلومة، إذ يتجه بعد هذه المقدمة ليتحول إلى "خبر مطاطي" قابل للتأويل حسب المزاج الشخصي لمحرره ومتلقيه في الوقت نفسه.

الموالون يثورون
في الآونة الأخيرة، بدأت الأوساط الموالية للأسد بالتململ من هذا الإعلام. فقد شهدت مدينة
حمص، وتحديداً حي عكرمة الموالي انعطافةً يمكن اعتبارها استثنائية. فخلال تشييع ضحايا تفجير ضرب الحي، علت الأصوات لتطالب الإعلام بأن يحترم أولئك الذين قتلوا، وأن يعلن الحداد على أرواحهم، بدل أن يكتفي بذكر خبر مقتلهم وكأنه خبر عادي.
وهذا الأمر لم يحدث طيلة السنوات الثلاث والنصف التي مرت من عمر الثورة، إذ لطالما ردد هذا الإعلام مقولته الشهيرة بأنه "صوت السوريين في مواجهة المؤامرة الكونيّة"...
المساهمون