لا يجد المزارع اليمني محمد الحللي، صعوبة في ضخ مياه الصرف الصحي غير المعالجة، إلى مزرعته الواقعة في مديرية بني الحارث (15 كم إلى الشمال من العاصمة صنعاء).
"الأمر ببساطة يحتاج إلى مولدات كهربائية وأنابيب غاز لتشغيلها كي يتمكن المزارعون من الدفع بالمياه الخارجة من محطة معالجة مياه الصرف الصحي، التابعة للمؤسسة المحلية للمياه، عبر قنوات التصريف والأحواض الواقعة بجوار المحطة في بني الحارث لتصل إلى شبكة ري ممتدة على مساحة 1159 هكتاراً من الأراضي المزروعة بمحاصيل الخضروات" بحسب ما أفاد به الحللي معد التحقيق.
الحللي ليس بمفرده، إذ إن 154 مزارعا في مناطق شمال العاصمة اليمنية يستخدمون 70 ألف لتر مكعب من مياه الصرف غير المعالجة والتي تستقبلها محطة معالجة مياه الصرف الصحي يوميا، في ري أراضيهم المزروعة بالخضروات بحسب مسؤولين في محطة المعالجة.
ويكشف هذا التحقيق عن أن المساحة المزروعة بالخضروات في شمال صنعاء، ملوثة بالمعادن الثقيلة والميكروبات نتيجة احتواء مياه الصرف الصحي غير المعالجة التي تروى بها هذه المحاصيل، على مواد كيميائية خطرة ناتجة عن الزيوت ومخلفات المصانع والمستشفيات والمختبرات ومعامل التصوير المتواجدة في المنطقة.
خضروات ملوثة بالرصاص والكادميوم
يدافع المزارع الحللي و5 من المزراعين الذين التقاهم معد التحقيق في المنطقة عن الخضروات المروية بمياه الصرف الصحي غير المعالجة ويقولون:"ما تنتجه مزارعنا من خضر سواء التي تؤكل طازجة، أو التي تطهى لا تؤثر على صحة المستهلكين، لأنها نظيفة". غير أن دراسة لنبات الخردل الذي يزرع في التربة الملوثة ببني الحارث قام بها أستاذ فسيولوجي النبات والتلوث البيئي المشارك بكلية الزراعة التابعة لجامعة صنعاء الدكتور عبد الله حسين طاهش أكدت أن نسبة تركيز الرصاص في النبات 54.0، والكادميوم 24.8 جزء بالمليون، والمسموح به في الرصاص0.2 والكادميوم 0.02جزء بالمليون.
وتشير دراسة الدكتور عبد الله طاهش التي تكشف عنها "العربي الجديد" للمرة الأولى بعد إنجازها في العام 2013، إلى احتواء التربة على تركيز الرصاص والكادميوم فوق الحد المسموح الأمر الذي جعله ينتقل إلى النباتات والثمار المزروعة في بني الحارث.
وفقا لما وثقه معد التحقيق فإن ما جاء في دراسة الدكتور طافش المعنونة بـ"استخدام نبات الخردل لإزالة المعادن الثقيلة من التربة الملوثة بمياه الصرف الصحي في مديرية بني الحارث"، يطابق ما جاء في كتاب "البيئة التطبيقية والتلوث (الجزء النظري) "للدكتورين بكلية العلوم في جامعة دمشق محمد غسان سلوم وعدنان نظام الصادر عام 2010 واللذين أكدا أن التربة الملوثة بالمعادن الثقيلة ومنها الرصاص والكادميوم الناتج عن المياه الملوثة تؤدي إلى تركز هذه المعادن الخطرة، بصورة كبيرة في أنسجة النباتات والثمار وتنتقل بدورها عبر السلسلة الغذائية للإنسان مسببة أضراراً صحية له.
أمراض متعددة ومصابون كثر
تؤكد رسالة ماجستير قامت بها المعيدة في كلية الزراعة بجامعة صنعاء حنان محمد القباطي، على إصابة مستهلكي محاصيل الخضار الملوثة بمياه الصرف الصحي بـ (30 نوعا) من الأمراض والالتهابات التي تنشأ بسبب التلوث بمياه الصرف الصحي. ووفقا لرسالة الماجستير التي تمت بعنوان "تقييم التلوث الميكروبي والكيميائي للمياه الجوفية في منطقة بني الحارث - صنعاء" فإن أمراض (الكبد، والإسكارس والسرطان والنزلات المعوية والإسهالات، والزحار الأميبي، والبلهارسيا، والتيفود) تنتقل إلى من يستهلكون هذه المحاصيل الملوثة.
ويؤكد استشاري أمراض الجهاز الهضمي والكبد ونائب عميد كلية الطب في جامعة صنعاء لشؤون المستشفيات الدكتور يحيي غانم، أن تركز الرصاص والكادميوم في الخضر يؤدي إلى تليف الكبد، وفقر الدم المنجلي والفشل الكلوي. قائلا لـ"العربي الجديد":"مياه الصرف الصحي تحتوي على عناصر المغنسيوم والبوتاسيوم والصوديوم وأملاح مكثفة، والنيتروجين وإذا تناول الشخص الخضار المروية بتلك المياه بشكل يومي يحصل تراكم لهذه العناصر والأملاح في الجسم، ما يؤدي إلى إشكال في كهربائيات الجسم والدماغ وحركة العضلات ومن ثم جفاف الجسم من السوائل مكونا جلطات في القلب والدماغ".
ويضيف:"كما أن التلوث الميكروبي والجرثومي يؤدي إلى نزلات معوية وإسهالات، واضطرابات في الجهاز الهضمي".
المصابون بالأرقام
تكشف أحدث سجلات وزارة الصحة العامة والسكان اليمنية عن أن عدد المصابين بأمراض (الإسهالات، الفشل الكلوي، اضطرابات الجهاز الهضمي، الزحار الأميبي، عدوى جرثومية بكتيرية، فقر الدم المنجلي، والكبد) في العاصمة صنعاء بلغ 44624 مريضاً في العام 2014.
جدول يوضح بالأرقام عدد المرضى:
نوع المرض |
العدد |
الإسهالات |
26886 |
فشل كلوي |
1054 |
إضرابات في الجهاز الهضمي |
8338 |
زحار أميبي |
7847 |
عدوى جرثومية بكتيرية |
288 |
فقر الدم المنجلي |
133 |
الكبد |
77 |
ولم تشر سجلات وزارة الصحة إلى أسباب إصابة أهل صنعاء بهذه الأمراض، لكن الدكتور يحي غانم يؤكد أن تناول الخضار المروية بمياه الصرف الصحي غير المعالجة من المسببات الرئيسة لهذه الأمراض.
خلايا بكتيرية تفوق المسموح به
يصر المزارع الحللي وخمسة من رفاقه، وثق معد التحقيق أحاديثهم على التأكيد بأن مياه الصرف الصحي التي تروى بها أراضيهم المزروعة بالخضر معالجة. ويقول محمد لـ"العربي الجديد":"المياه التي نروي بها مزارع الخضر معالجة".
لكن مسؤول الصيانة في محطة معالجة مياه الصرف الصحي فهد الحللي يدحض تأكيدات المزارعين بأن مياه الصرف الخارجة من المحطة معالجة، قائلا لـ"العربي الجديد":"المياه التي تتدفق من المحطة إلى خارجها غير معالجة".
وتحوي المياه الخارجة من محطة معالجة مياه الصرف الصحي في بني الحارث (103ألف خلية بكتيرية لكل مل)، "وهو ما يعد معدل عالي للتلوث" وفق رسالة ماجستير حنان القباطي" تقييم التلوث الميكروبي والكيميائي للمياه الجوفية في منطقة بني الحارث - صنعاء" في حين أن المسموح به من (2-5خلية بكتيرية لكل مل).
وبسبب المعدلات العالية للخلايا البكتيرية، تلوثت التربة بالعناصر الثقيلة كالرصاص، والكادميوم والنحاس والزنك نتيجة لاحتواء مياه الصرف الصحي غير المعالجة على هذه المعادن الثقيلة وفقا لنتائج دراسة الدكتور عبدالله طاهش "استخدام نبات الخردل لإزالة المعادن الثقيلة من التربة الملوثة بمياه الصرف الصحي في مديرية بني الحارث" وتؤكد الدراسة ذاتها على تركز الرصاص في التربة بنسبة 45، والكادميوم بنسبة 56 جزءاً بالمليون.
المستهلك لا يعرف المخاطر
متوسط ما تنتجه الأراضي الزراعية المروية بالمياه العادمة في بني الحارث من الخضر ويسوقه المزارعون يوميا إلى الأسواق المنتشرة في 12 مديرية بالعاصمة صنعاء يبلغ (3 أطنان) وفقا لبيانات الإدارة العامة للإحصاء الزراعي التابعة لوزارة الزراعة والري.
المهندس ثابت الأغبري مدير عام الري المزرعي في قطاع الري واستصلاح الأراضي التابع لوزارة الزراعة والري يؤكد لـ"العربي الجديد"، أن وزارة الزراعة تعمل على توعية المزارعين على تجنب استخدام مياه الصرف الصحي غير المعالجة بري الخضار والمستهلكين بتجنب أكلها.
لكن واقع الحال ينبئ بغير ذلك بحسب نتائج استبيان علمي نفذه معد التحقيق لصالح (العربي الجديد) وزع على مائة عائلة متوسط الأسرة الواحدة سبعة أفراد يتناولون الخضر يوميا في ثلاث مناطق بالعاصمة هي (الصافية، الدائري، التحرير). أظهرت النتائج أن 21% فقط يعلمون أن الخضر التي يتناولونها مروية بمياه الصرف الصحي غير المعالجة لكنهم لا يعرفون أنها تضر بالصحة.
جدل بين الجهات
عبد الوهاب صلاح نائب مدير محطة المعالجة، يحمل وزارة الزراعة والري مسؤولية استخدام المزارعين لمياه الصرف الصحي في الري، قائلا لـ"العربي الجديد":"حتى لو لم يلزم القانون وزارة الزراعة بتحمل المسلؤولية فإنها يجب أن تتحمل مسؤولية أخلاقية تجاه مستهلكي محاصيل الخضر المروية بمياه الصرف الصحي".
المهندس الأغبري من جانبه دافع عن وزارة الزراعة والري بعدم تحمل مسؤولية ما قد تسببه مياه الصرف الصحي غير المعالجة على المستهلكين بالقول :"وزارة الزراعة ليست جهة ضبط، أو جهة قضائية حتى تمنع المزارعين من استخدام مياه الصرف الصحي غير المعالجة". ويضيف:"المؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي تتحمل المسؤولية باعتبارها الجهة المشرفة على المحطة التي تخرج منها تلك المياه العادمة ويستخدمها المزارعون".
مؤسسة المياه تتحمل المسؤولية
يعترف نائب المدير العام للمؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي للشؤون الفنية محمد مداعس بأن استخدام المزارعين لمياه الصرف الصحي يقع تحت مسؤولية المؤسسة والمحطة. قائلا لـ"العربي الجديد":"بشكل واضح، ما يحدث مسؤوليتنا". لكنه يعيد سبب تصريف مياه الصرف الصحي إلى متناول المزارعين إلى انعدام الديزل، ويتابع: "هذا خارج عن إرادتنا، بسبب عدم وجود الكهرباء يصعب تشغيل محطة المعالجة، ولأننا غير قادرين على توفير مادة الديزل لتشغيل المولدات الخاصة بالمحطة تذهب مياه الصرف الصحي إلى المزارعين دون معالجة".
ويؤكد مصدر في محطة المعالجة، رفض ذكر اسمه، أن الطاقة الاستيعابية للمحطة (50 ألف) لتر مكَعّب منذ إنشائها في العام 2000، ومع زيادة سكان صنعاء إلى ثلاثة ملايين نسمة بحسب آخر إحصاء 2004، زادت الكمية التي تستقبلها المحطة يوميا بنسبة 35%.
ويتابع المصدر قائلا لـ"العربي الجديد":"هذا الأمر قلل من كفاءة المحطة وأدى إلى توقفها عن العمل معظم أشهر العام الواحد، وانعدام الديزل وقتي وسيزول مع انتهاء الأزمة لكن المحطة ستظل على حالها بين التوقف والعمل وسيظل الناس عرضة للمخاطر الصحية إذا لم يتم منع استخدام مياه الصرف الصحي غير المعالجة في ري الخضر".
شكوى منظورة أمام القضاء
استمرار المزارعين اليمنيين في ري أرضهم المنتجة لمحاصيل الخضر بمياه الصرف الصحي غير المعالجة لأراضيهم، دفع بعشرات السكان المحليين في بني الحارث في إبريل/ نيسان 2016 إلى تقديم شكوى إلى محكمة بني الحارث الابتدائية ضد المزارعين الذين يروون مزارعهم بمياه الصرف الصحي غير المعالجة، ووثق المقدمو الشكوى في شكواهم ما سببته منتجات الخضر المروية بمياه الصرف الصحي، للسكان المحليين والمجتمع عامة من أضرار صحية ناهيك عن الأضرار الصحية المباشرة التي يتعرض لها السكان هناك.
ويؤكد قاضي محكمة بني الحارث الابتدائية الذي ينظر في القضية المقدمة من المواطنين علي العامري، على إحالة القضية إلى نيابة المخالفات المتخصصة بمثل هذه القضايا بعد النظر فيها، غير أن نيابة المخالفات أعادت القضية إلى المحكمة لإيضاح السند القانوني حسب العامري.
ويقول العامري لـ"العربي الجديد":"توجد واقعة جنائية بحق السكان كونهم متضررين عمليا بمياه الصرف الصحي غير المعالجة وتضرر مجتمعي واسع جراء ري مزارع الخضر بتلك المياه، لكن يوجد قصور في التشريع".
قصور التشريع
لم ترد في قانوني المياه رقم 41 لسنة 2006، وقانون حماية البيئة رقم 26 لسنة 1995 مادة قانونية واحدة تؤكد على منع المزارعين صراحة من استخدام مياه الصرف الصحي غير المعالجة في ري مزارع الخضر التابعة لهم، بيد أن القاضي العامري يؤكد أنهم بصدد النظر إلى أقرب نص تشريعي في قانون المياه يخدم هذه القضية.