كرر الخمسيني الفلسطيني ياسر فاضل*، محاولة الانتحار خمس مرات، بعدما ساءت حالته النفسية والصحية إذ فشل في الحصول على عمل يوفر احتياجات عائلته المكونة من خمسة أطفال وزوجته، ولم يفلح خضوعه للعلاج النفسي في انتشاله من حالة الاكتئاب الحاد، إذ تزايد شعوره بالقهر والظلم مع إغلاق باب الأمل في وجهه لعدم وجود واسطة تساعده، وهو ما أدى إلى يأسه من الحياة كما يقول.
وإن كان ياسر فاضل قد نجا "مؤقتا" من الموت، لكن الطفل أحمد فرج غنام ذا الأربعة عشر عاما انتحر، عشية زواج والدته من رجل آخر، بعد انفصالها عن والده وفق ما تناقلته وسائل الإعلام الفلسطينية في إبريل/نيسان الماضي.
ازدياد حالات الانتحار
شهد عام 2018 ازدياد حالات الانتحار التام الموثقة والمسجلة رسميا بنسبة 14% عن عام 2017، إذ سجلت بيانات الشرطة الفلسطينية وقوع 25 حالة انتحار، من بينهم 15 ذكراً انتحروا بنسبة 60% و10 إناث بنسبة 40% في مختلف محافظات الضفة في عام 2018، فيما سجلت بيانات الشرطة 22 حالة في عام 2017.
وتُظهر الإحصائيات التحليلية الصادرة عن إدارة البحوث والتخطيط في الشرطة أنّ عدد حالات الانتحار من فئة غير المتزوجين من كلا الجنسين 17 حالة، بنسبة 68% فيما بلغ عدد حالات الانتحار من فئة المتزوجين من كلا الجنسين 8 حالات، بنسبة 32%، وأعلى نسبة لمن أقدموا على الانتحار جاءت ضمن الفئة العمرية ما بين 28- 25 عاما، وشكلت ما نسبته 32%، وأعلى نسبة للأشخاص لمن أقدموا على الانتحار جاءت ضمن فئة حملة الشهادات الثانوية وشكلت 44% وفق ما جاء في البيان السنوي المنشور في الموقع الرسمي للشرطة الفلسطينية في 4 إبريل/نيسان 2019.
بالمقابل فإن 218 شخصا حاولوا الانتحار من بينهم 61 ذكراً و157 أنثى وفق ما وثقته الشرطة الفلسطينية عبر إدارة حماية الأسرة والأحداث التي عملت على تسجيل حالات الشروع بالانتحار، عبر تناول حبات من الدواء أو جرح الأطراف أو تعليق أنفسهم، وفي الغالب تكون الأناث الأكثر عددا في هذه المحاولات، وفق ما جاء في رصد الشرطة، والذي لفت إلى أن توزيع الأدوات المستخدمة في الانتحار يأتي على رأسها الحبل "الشنق" وهو الأكثر استخداما بنسبة 76% ثم السقوط من علو بنسبة 12% تلتها السموم والسلاح والأداة الحادة.
وفكر 25.6% من طلبة مدارس فلسطين بعمر ما بين 13 عام و15 عاما في الانتحار، وفقا لما جاء في دراسة نشرت بالدورية العالمية لطب الأطفال والمراهقين لعام 2017 وأعلنت عنها الدكتورة سماح جبر، رئيسة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية في المؤتمر الصحي النفسي الاجتماعي لمستشفى المقاصد الخيرية الإسلامية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وتستأثر البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل بنحو 79% من حالات الانتحار في العالم وفق ما رصدته منظمة الصحة العالمية في دراسة صدرت في 24 أغسطس/آب من العام الماضي.
اقــرأ أيضاً
ما هي الأرقام الحقيقية؟
انتحرت 17 حالة منذ بداية العام الجاري، بينهم 3 إناث و4 أطفال بحسب إفادة العقيد لؤي ارزيقات الناطق باسم الشرطة الفلسطينية لـ"العربي الجديد"، مشيرا إلى أن الفتيات هن الأكثر شروعا بالانتحار لكن الذكور الأكثر تنفيذا له كما يقول، مشددا على عدم مرور أي حالة انتحار دون أن تُسجل لديهم، حتى وإن حاولت العائلة التستر عليها وفق قوله.
لكن استشاري الأمراض النفسية والعقلية محمود سحويل، مدير مركز علاج وتأهيل ضحايا التعذيب، فيقول إن الأرقام الحقيقية قد تكون أضعاف ما يعلن عنه سنويا، مضيفا أن هناك حالات لا يتم التوجه بها إلى المستشفيات، أو الإبلاغ عنها وأخرى تدور الشبهات حول تصنيفها.
السبب الأول للانتحار
يأتي سبب الإصابة بمرض نفسي وعدم سعي ذوي الأشخاص المصابين بهذه الأمراض لعلاجهم، في مقدمة أسباب الانتحار بنسبة 40% من إجمالي الأسباب وفق إحصاء الشرطة، وهو ما يرجعه الدكتور توفيق السلمان رئيس جمعية الأطباء الفلسطينيين النفسيين إلى أن السؤال عن الطبيب النفسي بين عامة الناس أمر غير وارد، وفي حال اقتنعوا بأهمية العرض على طبيب نفسي فإنهم يبحثون عنه سرا ويذهبون سرا ويخفون تجربتهم، سواء كانت ناجحة أم فاشلة، ما يحرم المرضى من تقييم الطبيب قبل الذهاب إليه.
لكن حالات حاولت الانتحار، أكدت أن لجوؤهم للطبيب النفسي بعد محاولتهم الانتحار، جاء بنتائج عكسية وفق ما وثقه معد التحقيق، ومنهم الفلسطيني العشريني نائل مصطفى* والذي حاول الانتحار بعد العلاج النفسي، ولدى سفره إلى ألمانيا للعلاج، كشف طبيبه، أن تشخيص الأطباء في الضفة الغربية كان خاطئا منذ البداية، إذ كانوا يغرقونه بأدوية غير مناسبة لحالته وفق رواية شقيقته، مؤكدة أن شقيقها بدأ في التعافي بعد العلاج في ألمانيا، ويرد الدكتور السلمان قائلا: "بسبب الثقافة المنتشرة في تجاهل أهمية علاج المرض النفسي وعدم تقييم الطبيب النفسي بشكل علني، فإنه من غير الوارد أيضا تقديم شكوى بالطبيب المخطئ"، لافتا إلى عدم وجود شكوى واحدة حتى لدى الجمعية.
وجاءت الخلافات العائلية في المستوى الثاني كدوافع للانتحار، وبلغت نسبتها 32%، وجاءت الأوضاع المادية في المرتبة الثالثة بنسبة 12%، ثم الأسباب العاطفية 4% والابتزاز كان له دور في الانتحار بنسبة 4%.
"أنا بخير"
تعتبر زيارة الطبيب النفسي وصمة اجتماعية في أوساط المتعلمين أكثر من غيرهم، إذ يكابرون أمام تعرضهم للصدمات النفسية وفق ما قاله الدكتور سحويل، مؤكدا أن الكل يختبئ خلف قناع "أنا بخير"، في حين أن زيارة الشيوخ أو المشعوذين مبررة مجتمعيا كما يقول.
ويتفق الداعية في مركز نون للدراسات القرآنية في رام الله، الشيخ عماد القاضي، مع الرأي السابق لافتا إلى أن اللجوء للقرّاء والشيوخ في حالة المرض النفسي يجعل المرضى يقعون ضحية تجاره وجهل وعدم اتخاذ بالأسباب، قائلا: "عندما يلجأ إلينا أحد نستمع إليه ونوجهه بالنصح وبعض الحالات نحوّلها لأطباء نفسيين نتعامل معهم ونتابع هذه الحالات ونجد أنهم فعلا تعافوا واستعادوا حياتهم الطبيعية"، وهو ما يؤكده الدكتور سحويل، مشيرا إلى أن المرضى يعودون للطبيب النفسي بعد أن تتعقد أعراض المرض لديهم، وهو ما تؤكده دراسة منظمة الصحة العالمية التي لفتت إلى أن "وصمة العار التي تحيط بالاضطرابات النفسية والانتحار تعني أن كثيراً ممن يفكرون في وضع نهاية لحياتهم أو حاولوا الانتحار سيتعذر عليهم طلب المساعدة"، الأمر الذي وثقته معدة التحقيق عبر حالة العشرينية الفلسطينية فاطمة محمد*، التي اصطحبتها والدتها سرا إلى طبيب نفسي، لتلقي العلاج على يديه ولم تعد تفكر بالانتحار، بعد أن نجت من محاولة انتحار قبل عدة سنوات.
التوزيع الجغرافي للانتحار في المدن والقرى والمخيمات
سجلت محافظة الخليل أعلى حالات الانتحار في عام 2018، بعدد 7 حالات انتحار من 13 حالة انتحار بين سكان المدن الفلسطينية، تليها محافظة قلقيلية بـ 5 حالات انتحار بنسبة 52%، وكان عدد المنتحرين في القرى 11 حالة انتحار بنسبة 44%، وحالة واحدة فقط في المخيمات بنسبة 4%، ولم تسجل طوباس وسلفيت وأريحا أي حالة انتحار وفق البيان السنوي لعام 2018.
وأجمع أخصائيو الأمراض النفسية الذين التقتهم معدة التحقيق، أن الجو العام المحاط باليأس والإحباط، من أهم الأسباب التي تؤدي إلى المرض النفسي كما يقول الدكتور سحويل، والذي توصل في دراسة غير منشورة بعد عن "الانتحار في الضفة الغربية"، إلى أن نسبة الاكتئاب في المجتمع الفلسطيني 24%، مشيرا إلى أن أقصى النسب العالمية للاكتئاب 10%.
زيادة معدل الاكتئاب لاحظته الدكتورة سماح جبر، والتي تقول إن غالبية المرضى النفسيين ممن تعالجهم هي أو زملاؤها، كان لدى عائلاتهم تاريخ مرضي مشابه، والاكتئاب هو الأعلى نسبة بين الأمراض النفسية الأخرى في فلسطين، وتابعت :"المكتئب يصل إلى نوع من الشعور العدمي وفقدان الأمل"، مضيفة أن من بين الأسباب سراب المنظومة السياسية، والذي تعتقد أنه لعب دورا هاما في فقدان رغبات ودوافع الحياة، وخلق أزمة صحية وفراغاً معنويا.
ويرسل المنتحر أو من يحاول الانتحار رسائل تحذيرية قبل الإقدام على فعلته، كما تقول الدكتورة جبر، والتي لا تزال تتذكر حالة طفل مصاب بالاكتئاب كان والده يوقظه صباحا لمساعدته في قطف الزيتون وهو لا يريد فعل أي شيء بسبب اكتئابه، ومع إلحاح والده قال الطفل "إن شاء الله ستجدني معلقا على شجرة"، لم يأخذ الأب كلام ابنه على محمل الجد حتى وجده وقد شنق نفسه على شجرة، لافتة إلى أن إشارات الطفل تم تجاهلها أو عدم استيعابها وأخذها على محمل الجد.
موازنة ضعيفة لمراكز الصحة النفسية
يعاني المرضى من صعوبة في الوصول إلى مراكز الصحة النفسية التابعة لوزارة الصحة، وفق ما وثقته معدة التحقيق مع 10 حالات ممن حاولوا الانتحار أو ذويهم من خلال سؤالهم عن عناوين تلك المراكز الصحية، إذ استدل واحد منهم فقط على وحدة صحية مختصة، علما بأن هذه الوحدة تقع في بناية قديمة ومهملة بالمنطقة الصناعية لبلدة بيتونيا المحاذية لمدينة رام الله، ورغم أن عليها يافطة، إلا أن الاستدلال على وجودها في ذاك المبنى يتم بصعوبة.
وتقول الدكتورة جبر التي تترأس حاليا وحدة الصحة النفسية وتشرف على خدمات الصحة النفسية في الضفة الغربية: "نعمل في ظروف مجتمعية معقدة، إضافة إلى أن ما تصرفه الحكومة على الصحة النفسية لا يتجاوز 2% من ميزانية وزارة الصحة".
وبلغت ميزانية وزارة الصحة 1.787 مليار شيكل في عام 2018 ويحتل بندا النفقات التشغيلية والرواتب والأجور أغلب الميزانية بإجمالي 1.665 مليار شيكل، بينما بلغ عدد أسرة الأمراض النفسية والعقلية 205 وفق ما وثقته معدة التحقيق عبر موازنة وزارة الصحة عن عام 2018، بالمقابل أشارت الدكتورة جبر في المؤتمر الصحي النفسي الاجتماعي، إلى وجود قصور في الطب النفسي في فلسطين في ظل ما تعكسه الأرقام من زيادة مطّردة في أعداد المرضى المتوجهين للمراكز النفسية التابعة للحكومة، والذين تتراوح أعمارهم بين 25 عاما و49 عاما وغالبيتهم من الذكور.
غياب استراتيجية وطنية للوقاية من الانتحار
على الرغم من أن بلداناً قليلة، أدرجت الوقاية من الانتحار ضمن أولوياتها و38 دولة ذكرت أن لديها استراتيجية وطنية للوقاية من الانتحار، لكن فلسطين ليست واحدة منها بحسب منظمة الصحة العالمية.
ويؤكد الدكتور خالد سعيد المستشار الإقليمي للصحة النفسية بمنظمة الصحة العالمية في رده على أسئلة معدة التحقيق أن فلسطين ليست عضوا في المنظمة، وبالتالي تغيب عن تقارير نسب المنتحرين وقاعدة بيانات المنظمة التي تعمل على تقدير نسب الظاهرة.
وتابع: "تقدم الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية عبر وزارات الصحة تقاريرها إلى قاعدة بيانات معدل الوفيات وأسبابها ولا توجد سجلات لفلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة).
إلا أن الدكتورة سماح جبر قالت إن هناك مسودة لخطة وطنية للوقاية من الانتحار يجري إعدادها من قبل وزارة الصحة بالشراكة مع عدة مؤسسات وسيتم الانتهاء منها وتقديمها للمصادقة عليها نهاية هذا العام.
وتحتاج مقاومة الظاهرة إلى تعاون المؤسسات المعنية وإقامة ورش عمل موسعة ومحاولة وضع الأسس الكفيلة بمواجهة ظاهرة الانتحار، وزيادة الوعي المجتمعي في كيفية التعامل مع حالات الأمراض النفسية، ومساعدة الأسرة في التغلب على هذه الإشكاليات والأمراض وتلمس هموم المواطنين وخاصة الأطفال وإبعادهم عن الافكار والألعاب الخطرة ومتابعة الأفلام والمسلسلات التي تحوي على مشاهد عنيفة، وصقل شخصياتهم من خلال برامج وخطط مدروسة، وفق ما جاء في البيان السنوي للشرطة الفلسطينية عن حالات الانتحار خلال العام الماضي، وهو ما أكده أخصائيو الأمراض النفسية الذين التقتهم معدة التحقيق، مشيرين إلى ضرورة نشر الوعي المجتمعي حول الطب النفسي الذي يحتاجه الفرد كاحتياجه لأي طبيب آخر، لأن ما يتم إخفاؤه من مشاكل في المجتمع لا يظهر إلا على شكل فاجعة وصدمة مجتمعية.
جانب آخر لا يقل أهمية إذ تشكل العلاقات الأسرية والاجتماعية جدارا حاميا للمجتمع من الانتحار وفق أخصائيي الأمراض النفسية، وهو ما افتقدته سلمى محمد* التي تمنت أن تحظى باحتضان وشعور بالحماية والحب افتقدته بعد وفاة والدها، وفشلها في اجتياز الثانوية العامة ثلاث مرات، الأمر الذي أدى بها إلى تكرار محاولة الانتحار عدة مرات، لحسن الحظ فشلت جميعها.
*تم إخفاء هوية جميع الضحايا بناء على طلبهم وذويهم
وإن كان ياسر فاضل قد نجا "مؤقتا" من الموت، لكن الطفل أحمد فرج غنام ذا الأربعة عشر عاما انتحر، عشية زواج والدته من رجل آخر، بعد انفصالها عن والده وفق ما تناقلته وسائل الإعلام الفلسطينية في إبريل/نيسان الماضي.
ازدياد حالات الانتحار
شهد عام 2018 ازدياد حالات الانتحار التام الموثقة والمسجلة رسميا بنسبة 14% عن عام 2017، إذ سجلت بيانات الشرطة الفلسطينية وقوع 25 حالة انتحار، من بينهم 15 ذكراً انتحروا بنسبة 60% و10 إناث بنسبة 40% في مختلف محافظات الضفة في عام 2018، فيما سجلت بيانات الشرطة 22 حالة في عام 2017.
وتُظهر الإحصائيات التحليلية الصادرة عن إدارة البحوث والتخطيط في الشرطة أنّ عدد حالات الانتحار من فئة غير المتزوجين من كلا الجنسين 17 حالة، بنسبة 68% فيما بلغ عدد حالات الانتحار من فئة المتزوجين من كلا الجنسين 8 حالات، بنسبة 32%، وأعلى نسبة لمن أقدموا على الانتحار جاءت ضمن الفئة العمرية ما بين 28- 25 عاما، وشكلت ما نسبته 32%، وأعلى نسبة للأشخاص لمن أقدموا على الانتحار جاءت ضمن فئة حملة الشهادات الثانوية وشكلت 44% وفق ما جاء في البيان السنوي المنشور في الموقع الرسمي للشرطة الفلسطينية في 4 إبريل/نيسان 2019.
بالمقابل فإن 218 شخصا حاولوا الانتحار من بينهم 61 ذكراً و157 أنثى وفق ما وثقته الشرطة الفلسطينية عبر إدارة حماية الأسرة والأحداث التي عملت على تسجيل حالات الشروع بالانتحار، عبر تناول حبات من الدواء أو جرح الأطراف أو تعليق أنفسهم، وفي الغالب تكون الأناث الأكثر عددا في هذه المحاولات، وفق ما جاء في رصد الشرطة، والذي لفت إلى أن توزيع الأدوات المستخدمة في الانتحار يأتي على رأسها الحبل "الشنق" وهو الأكثر استخداما بنسبة 76% ثم السقوط من علو بنسبة 12% تلتها السموم والسلاح والأداة الحادة.
وفكر 25.6% من طلبة مدارس فلسطين بعمر ما بين 13 عام و15 عاما في الانتحار، وفقا لما جاء في دراسة نشرت بالدورية العالمية لطب الأطفال والمراهقين لعام 2017 وأعلنت عنها الدكتورة سماح جبر، رئيسة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية في المؤتمر الصحي النفسي الاجتماعي لمستشفى المقاصد الخيرية الإسلامية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وتستأثر البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل بنحو 79% من حالات الانتحار في العالم وفق ما رصدته منظمة الصحة العالمية في دراسة صدرت في 24 أغسطس/آب من العام الماضي.
ما هي الأرقام الحقيقية؟
انتحرت 17 حالة منذ بداية العام الجاري، بينهم 3 إناث و4 أطفال بحسب إفادة العقيد لؤي ارزيقات الناطق باسم الشرطة الفلسطينية لـ"العربي الجديد"، مشيرا إلى أن الفتيات هن الأكثر شروعا بالانتحار لكن الذكور الأكثر تنفيذا له كما يقول، مشددا على عدم مرور أي حالة انتحار دون أن تُسجل لديهم، حتى وإن حاولت العائلة التستر عليها وفق قوله.
لكن استشاري الأمراض النفسية والعقلية محمود سحويل، مدير مركز علاج وتأهيل ضحايا التعذيب، فيقول إن الأرقام الحقيقية قد تكون أضعاف ما يعلن عنه سنويا، مضيفا أن هناك حالات لا يتم التوجه بها إلى المستشفيات، أو الإبلاغ عنها وأخرى تدور الشبهات حول تصنيفها.
السبب الأول للانتحار
يأتي سبب الإصابة بمرض نفسي وعدم سعي ذوي الأشخاص المصابين بهذه الأمراض لعلاجهم، في مقدمة أسباب الانتحار بنسبة 40% من إجمالي الأسباب وفق إحصاء الشرطة، وهو ما يرجعه الدكتور توفيق السلمان رئيس جمعية الأطباء الفلسطينيين النفسيين إلى أن السؤال عن الطبيب النفسي بين عامة الناس أمر غير وارد، وفي حال اقتنعوا بأهمية العرض على طبيب نفسي فإنهم يبحثون عنه سرا ويذهبون سرا ويخفون تجربتهم، سواء كانت ناجحة أم فاشلة، ما يحرم المرضى من تقييم الطبيب قبل الذهاب إليه.
وجاءت الخلافات العائلية في المستوى الثاني كدوافع للانتحار، وبلغت نسبتها 32%، وجاءت الأوضاع المادية في المرتبة الثالثة بنسبة 12%، ثم الأسباب العاطفية 4% والابتزاز كان له دور في الانتحار بنسبة 4%.
"أنا بخير"
تعتبر زيارة الطبيب النفسي وصمة اجتماعية في أوساط المتعلمين أكثر من غيرهم، إذ يكابرون أمام تعرضهم للصدمات النفسية وفق ما قاله الدكتور سحويل، مؤكدا أن الكل يختبئ خلف قناع "أنا بخير"، في حين أن زيارة الشيوخ أو المشعوذين مبررة مجتمعيا كما يقول.
ويتفق الداعية في مركز نون للدراسات القرآنية في رام الله، الشيخ عماد القاضي، مع الرأي السابق لافتا إلى أن اللجوء للقرّاء والشيوخ في حالة المرض النفسي يجعل المرضى يقعون ضحية تجاره وجهل وعدم اتخاذ بالأسباب، قائلا: "عندما يلجأ إلينا أحد نستمع إليه ونوجهه بالنصح وبعض الحالات نحوّلها لأطباء نفسيين نتعامل معهم ونتابع هذه الحالات ونجد أنهم فعلا تعافوا واستعادوا حياتهم الطبيعية"، وهو ما يؤكده الدكتور سحويل، مشيرا إلى أن المرضى يعودون للطبيب النفسي بعد أن تتعقد أعراض المرض لديهم، وهو ما تؤكده دراسة منظمة الصحة العالمية التي لفتت إلى أن "وصمة العار التي تحيط بالاضطرابات النفسية والانتحار تعني أن كثيراً ممن يفكرون في وضع نهاية لحياتهم أو حاولوا الانتحار سيتعذر عليهم طلب المساعدة"، الأمر الذي وثقته معدة التحقيق عبر حالة العشرينية الفلسطينية فاطمة محمد*، التي اصطحبتها والدتها سرا إلى طبيب نفسي، لتلقي العلاج على يديه ولم تعد تفكر بالانتحار، بعد أن نجت من محاولة انتحار قبل عدة سنوات.
التوزيع الجغرافي للانتحار في المدن والقرى والمخيمات
سجلت محافظة الخليل أعلى حالات الانتحار في عام 2018، بعدد 7 حالات انتحار من 13 حالة انتحار بين سكان المدن الفلسطينية، تليها محافظة قلقيلية بـ 5 حالات انتحار بنسبة 52%، وكان عدد المنتحرين في القرى 11 حالة انتحار بنسبة 44%، وحالة واحدة فقط في المخيمات بنسبة 4%، ولم تسجل طوباس وسلفيت وأريحا أي حالة انتحار وفق البيان السنوي لعام 2018.
وأجمع أخصائيو الأمراض النفسية الذين التقتهم معدة التحقيق، أن الجو العام المحاط باليأس والإحباط، من أهم الأسباب التي تؤدي إلى المرض النفسي كما يقول الدكتور سحويل، والذي توصل في دراسة غير منشورة بعد عن "الانتحار في الضفة الغربية"، إلى أن نسبة الاكتئاب في المجتمع الفلسطيني 24%، مشيرا إلى أن أقصى النسب العالمية للاكتئاب 10%.
زيادة معدل الاكتئاب لاحظته الدكتورة سماح جبر، والتي تقول إن غالبية المرضى النفسيين ممن تعالجهم هي أو زملاؤها، كان لدى عائلاتهم تاريخ مرضي مشابه، والاكتئاب هو الأعلى نسبة بين الأمراض النفسية الأخرى في فلسطين، وتابعت :"المكتئب يصل إلى نوع من الشعور العدمي وفقدان الأمل"، مضيفة أن من بين الأسباب سراب المنظومة السياسية، والذي تعتقد أنه لعب دورا هاما في فقدان رغبات ودوافع الحياة، وخلق أزمة صحية وفراغاً معنويا.
ويرسل المنتحر أو من يحاول الانتحار رسائل تحذيرية قبل الإقدام على فعلته، كما تقول الدكتورة جبر، والتي لا تزال تتذكر حالة طفل مصاب بالاكتئاب كان والده يوقظه صباحا لمساعدته في قطف الزيتون وهو لا يريد فعل أي شيء بسبب اكتئابه، ومع إلحاح والده قال الطفل "إن شاء الله ستجدني معلقا على شجرة"، لم يأخذ الأب كلام ابنه على محمل الجد حتى وجده وقد شنق نفسه على شجرة، لافتة إلى أن إشارات الطفل تم تجاهلها أو عدم استيعابها وأخذها على محمل الجد.
موازنة ضعيفة لمراكز الصحة النفسية
يعاني المرضى من صعوبة في الوصول إلى مراكز الصحة النفسية التابعة لوزارة الصحة، وفق ما وثقته معدة التحقيق مع 10 حالات ممن حاولوا الانتحار أو ذويهم من خلال سؤالهم عن عناوين تلك المراكز الصحية، إذ استدل واحد منهم فقط على وحدة صحية مختصة، علما بأن هذه الوحدة تقع في بناية قديمة ومهملة بالمنطقة الصناعية لبلدة بيتونيا المحاذية لمدينة رام الله، ورغم أن عليها يافطة، إلا أن الاستدلال على وجودها في ذاك المبنى يتم بصعوبة.
وتقول الدكتورة جبر التي تترأس حاليا وحدة الصحة النفسية وتشرف على خدمات الصحة النفسية في الضفة الغربية: "نعمل في ظروف مجتمعية معقدة، إضافة إلى أن ما تصرفه الحكومة على الصحة النفسية لا يتجاوز 2% من ميزانية وزارة الصحة".
وبلغت ميزانية وزارة الصحة 1.787 مليار شيكل في عام 2018 ويحتل بندا النفقات التشغيلية والرواتب والأجور أغلب الميزانية بإجمالي 1.665 مليار شيكل، بينما بلغ عدد أسرة الأمراض النفسية والعقلية 205 وفق ما وثقته معدة التحقيق عبر موازنة وزارة الصحة عن عام 2018، بالمقابل أشارت الدكتورة جبر في المؤتمر الصحي النفسي الاجتماعي، إلى وجود قصور في الطب النفسي في فلسطين في ظل ما تعكسه الأرقام من زيادة مطّردة في أعداد المرضى المتوجهين للمراكز النفسية التابعة للحكومة، والذين تتراوح أعمارهم بين 25 عاما و49 عاما وغالبيتهم من الذكور.
غياب استراتيجية وطنية للوقاية من الانتحار
على الرغم من أن بلداناً قليلة، أدرجت الوقاية من الانتحار ضمن أولوياتها و38 دولة ذكرت أن لديها استراتيجية وطنية للوقاية من الانتحار، لكن فلسطين ليست واحدة منها بحسب منظمة الصحة العالمية.
ويؤكد الدكتور خالد سعيد المستشار الإقليمي للصحة النفسية بمنظمة الصحة العالمية في رده على أسئلة معدة التحقيق أن فلسطين ليست عضوا في المنظمة، وبالتالي تغيب عن تقارير نسب المنتحرين وقاعدة بيانات المنظمة التي تعمل على تقدير نسب الظاهرة.
وتابع: "تقدم الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية عبر وزارات الصحة تقاريرها إلى قاعدة بيانات معدل الوفيات وأسبابها ولا توجد سجلات لفلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة).
إلا أن الدكتورة سماح جبر قالت إن هناك مسودة لخطة وطنية للوقاية من الانتحار يجري إعدادها من قبل وزارة الصحة بالشراكة مع عدة مؤسسات وسيتم الانتهاء منها وتقديمها للمصادقة عليها نهاية هذا العام.
وتحتاج مقاومة الظاهرة إلى تعاون المؤسسات المعنية وإقامة ورش عمل موسعة ومحاولة وضع الأسس الكفيلة بمواجهة ظاهرة الانتحار، وزيادة الوعي المجتمعي في كيفية التعامل مع حالات الأمراض النفسية، ومساعدة الأسرة في التغلب على هذه الإشكاليات والأمراض وتلمس هموم المواطنين وخاصة الأطفال وإبعادهم عن الافكار والألعاب الخطرة ومتابعة الأفلام والمسلسلات التي تحوي على مشاهد عنيفة، وصقل شخصياتهم من خلال برامج وخطط مدروسة، وفق ما جاء في البيان السنوي للشرطة الفلسطينية عن حالات الانتحار خلال العام الماضي، وهو ما أكده أخصائيو الأمراض النفسية الذين التقتهم معدة التحقيق، مشيرين إلى ضرورة نشر الوعي المجتمعي حول الطب النفسي الذي يحتاجه الفرد كاحتياجه لأي طبيب آخر، لأن ما يتم إخفاؤه من مشاكل في المجتمع لا يظهر إلا على شكل فاجعة وصدمة مجتمعية.
جانب آخر لا يقل أهمية إذ تشكل العلاقات الأسرية والاجتماعية جدارا حاميا للمجتمع من الانتحار وفق أخصائيي الأمراض النفسية، وهو ما افتقدته سلمى محمد* التي تمنت أن تحظى باحتضان وشعور بالحماية والحب افتقدته بعد وفاة والدها، وفشلها في اجتياز الثانوية العامة ثلاث مرات، الأمر الذي أدى بها إلى تكرار محاولة الانتحار عدة مرات، لحسن الحظ فشلت جميعها.
*تم إخفاء هوية جميع الضحايا بناء على طلبهم وذويهم