عندما اخترق "عمر" تابوهات الدراما الدينية!

05 يوليو 2015
+ الخط -

منذ سنوات، بينما يتحدث خطيب الجمعة، عن طاعة الله ورسوله، قال "هل كان أحد يجرؤ أن يعارض النبي؟ كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقف إلى جواره وإذا عارضه أحد يقول "دعني أقتله يا رسول الله.. دعني أضرب عنقه يا رسول الله".

أحاول تخيُّل الصورة الذهنية التي ستتشكل عند صغار السن أو أصحاب الثقافة المتواضعة عن الصحابي الجليل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بعد استماعهم لمثل تلك الخطبة التي تصوّره رجلاً متحمساً يقف شاهراً سيفه ينتظر من يبدو على وجهه مجرد عدم الاقتناع بقول نبوي ليهوي على عنقه بسيفه مطيحاً برأسه، هذا فضلاً عن أولئك المتأثرين بالتناول الساذج للسيرة النبوية وسير الصحابة والتابعين فيتصوّرون عالماً ملائكياً لا يتحدث فيه الناس إلا بقال الله وقال الرسول.

***

يقول حاتم علي، مخرج العمل، في لقائه على إحدى الفضائيات عن مسلسل عمر، إن من المصاعب التي واجهت المسلسل، فقر المصادر العربية، وتحديداً في الكتابات التي تتناول الجانب الإنساني الشخصي، شديد الخصوصية من حياة الصحابة، والحقيقة أن المسلسل قد نجح في قراءة ما بين السطور في حياة عمر الشخصية.

من بداية الحلقة الأولى، نرى عمر، وهو الخليفة، يقف أثناء توجهه للمدينة، متأملاً وادياً جافاً، ثم يبكي ويفسّر بكاءه لمن حوله بأنه شُكر الله على النعمة، ويقص عليهم أنه كان يرعى إبل أبيه في هذا الوادي وهو صبي، وأن أباه كان قاسياً فظاً غليظاً، يثقل عليه المهام ويضربه إذا قصّر، وهي حقيقة دوّنتها كتب التاريخ عن "الخطاب"، أنه كان شديد الفظاظة والقسوة، ورغم أن شخصية "الخطاب" في المسلسل كانت هامشية، إلا أن كاتب العمل، د.وليد سيف، أعطانا منها ما يكفي لنقرأها في حواره مع ابنه وهو يعنّفه بشدة لرغبة هذا الأخير في تجربة حظه في التجارة، ويغلظ عليه وهو يؤكد أن ابنه لن يرى ديناراً من ماله "مال الخطاب للخطاب وحده" حتى يموت "وما أظن هذا بقريب".

من وقت لآخر كان المسلسل يتناول جزءاً من الحياة الشخصية لعمر، كعلاقته بزوجته ومزاحه معها، ربما ليكسر الفكرة السائدة أنه كان رجلاً متجهماً دائماً تعلوه الكآبة، وبشكل عام فقد بدا واضحاً حرص صنّاع المسلسل على تقديم الصحابة كــ"بشر"،  فهذا أبو جندل بن سهيل بن عمرو يحبسه كفار قريش عن الهجرة ويقيدونه مع مسلم آخر فيتأملان القيد ويمزحان، وهذا طلحة بن عبيد الله وهو يسير مع علي وعثمان وعمر يفاجأ بالمطر بعد جفاف طويل، فيرفع يديه بتلقائية ويتلقاه ويقذفه للهواء بمرح ثم يمسح وجهه به، وهذا أبو سفيان بعد فتح الشام يتأمل إحدى مدنها ويجمع حوله بعض المسلمين وهو يسترجع عليهم ضاحكاً أيام كان يدخل هذه المدن زائراً وهي تحت سلطة الروم، فكأنما يكسر كل من الكاتب والمخرج تابوهاً آخر هو فكرة أن الصحابة هم غير باقي البشر وأن كل كلامهم أحاديث وحكم وكل حركاتهم إطراق وتأمّل وتسبيح وأنه لم تكن لهم حياة كحياتنا، وهي الفكرة النمطية السائدة للأسف، رغم أن كتب التراث التاريخي نفسها تحدثنا عن مزاح الصحابة وضحكهم بل ومزاح النبي (ص) معهم.

***

هنا، علينا أن نأخذ وقفة لنحيي صاحب فكرة أن يكون أغلب المسلسل بطريقة الـflashback، إذ يبدأ بحجة عمر الأخيرة قبل استشهاده، وخطبته في ولاته ورعيته عند الحرم المكي، ثم توجهه للمدينة فوقوفه بالوادي المذكور وبكاءه وتذكره ماضيه، ثم ننتقل إلى عمر الشاب في ما قبل الإسلام بسنوات، وتسير معنا الأحداث وصولاً إلى نفس نقطة بداية المسلسل، ويستمر الخط الزمني حتى اغتياله، رضي الله عنه، في المسجد واحتضاره ووصيته الأخيرة.

كمشتغل بالتاريخ، أؤكد أن هذه هي الطريقة الأذكى لتناول شخصية ثرية مثل عمر، لماذا؟ لأنه شخص مثير للفضول، فهو "خبر" بلا مبتدأ، إذ إن غالب الناس يعرف عمراً، الخليفة العادل، أو عمر المجاهد مع الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، ولكن من يعرف عمر الشاب الذي غادر لتوّه مرحلة المراهقة؟ ماذا عن عمر الشاب القوي المزهو بنفسه الذي كان يهوى مصارعة الرجال والمباهاة بقوته؟ ثم عمر الناضج المتفكر في أحوال مجتمعه ومحيطه والباحث عمّا وراء السطح المضطرب للمجتمع المكي؟ كل هذه المراحل ساهمت في تكوين شخصية "الفاروق" الذي يصفه المؤرخون كحاكم بأنه "أتعَبَ من جاؤوا بعده".

بصراحة شديدة، فإنني أرى أن الأكثر قيمة، في المسلسل، من فترة خلافة عمر هي فترة ما قبل خلافته، بل وما قبل إسلامه، لأنها تتطرق لمنطقة نادراً ما يُسَلَّط عليها الضوء، وقد تطرّق مخرج العمل لتلك النقطة حين سُئِلَ "لماذا تأخرت مرحلة خلافة عمر؟"، فأجاب بأنه كان من الضروري أولاً إظهار تفاصيل دعوة الإسلام، والتي كان عمر ضدها في البداية، ثم بعد ذلك إظهار دوره في مساندتها.

لهذا، فقد تأخر ظهور "عمر الخليفة" وتأخر ما يمكن وصفه بـ"اتساع مساحة الضوء المسلّطة عليه".

***

كما تقول كتب التاريخ، فقد كان عمر ابن محيطه، فبعمله لحساب أبيه، اكتسب من هذا الأخير غلظة وشدة إضافة لقوة تحمُّل عظيمة، ولم يستمتع كأقرانه من أبناء سادات وأثرياء قريش بحياة مترفة ناعمة كان بعض الصحابة أنفسهم قد عاشوها قبل إسلامهم، كعثمان بن مظعون ومصعب بن عمير وعثمان بن عفان، وإن كان تأثره بنمط حياة الشباب القرشي هو في ما يمكن أن نصفه بـ"المُتَع القاسية" المرتبطة بالقوة البدنية والشجاعة، كالمصارعة والصيد، فكأنما اجتمعت الظروف لتصيغ لنا هذا الشخص الذي ارتبط إسلامه بـ"العزة" في دعاء النبي "اللّهمّ أعز الإسلام بأحد العمرين"، وارتبط اسمه كحاكم بمعاني الانضباط والمحاسبة والمراقبة في فترة خلافته.

حرص المسلسل على إظهار ذلك، سواء في المشاهد سالفة الذكر أو في مشهد حلقة المصارعة، إذ يتحدى عمر رجلاً عملاق القامة انتهى لتوّه من هزيمة ساحقة لخصمه، ويصارعه عمر فيصرعه، حتى يستبد الحماس بأبو سفيان وهو يشاهدهما فيصيح مشيراً لعمر"هذا فتى قريش.. وفارسها.. ومصارعها".

***

بما أننا قد ذكرنا شخصية أبو سفيان، فدعونا نتأمل الشخصيات "المُساعِدة" في مسلسل "عمر"، فصياغة تلك الشخصيات جاءت بارعة، فلم يقع صُنّاع العمل في فخ "وتابعه قُفّة"، أي أن يتركز العمل كله على بطله ويجعل من باقي الشخصيات مجرد "سنّيدة" له، بل لقد بالغ كاتب السيناريو في تسليط الضوء على الشخصيات الأخرى حتى انتقد بعض المشاهدين ذلك وتساءلوا "لماذا إذن أطلقتم على المسلسل اسم عمر؟".

الواقع أنني لا أتفق مع من انتقدوا هذه النقطة، لأني أتفهّم مقصد كلٍ من المؤلف والمخرج منها، فقد أرادا أن يحققا التوازن بين تقديم شخصية عمر، وعدم تغيير واقع أن عمر لم يكن وحده بطل المشهد في بداية الإسلام ودولته، بل لقد حرصا على أن يقدما أبعاداً كاملة لشخصيات قلّ أن تم تناولها دراميّاً مثل "وحشي"، قاتل حمزة، والذي أسلم بعد ذلك وشارك في حروب الردة، وعمّار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة، وسهيل بن عمرو، وسجاح مدّعية النبوة، وغيرهم، بل واستغل صنّاع العمل خرقهم تابوه تجسيد الصحابة فلم يكتفوا بتقديم عمر، بل ورأينا معه أبو بكر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم، وكانت لكل شخصية منهم أبعادها الكاملة في المسلسل.

ولكن.. ثمة اختلافات وُجِدَت عن الواقع.. وهذه اعترف بها المخرج.

***

في لقائه سالف الذكر، يقول المخرج حاتم علي إنه في تحضيره للجانب الشكلي من شخصية عمر، التزم قدر الإمكان، الروايات عن مظهره وما يمكن أن تكون عليه ملامح شخص مثل عمر بن الخطاب معروف بالقوة والصرامة، ولكنه مع ذلك حرص على إظهار الرقة الداخلية لهذا الرجل، فحرص بالماكياج على تخفيف الصرامة الطبيعية في ملامح الممثل بطل العمل.

يقول حاتم علي عن مسألة الملامح، إن من المقبول درامياً بعض الاختلافات بين العمل والواقع التاريخي في ما يتعلق بالأشكال، ولكن دون إخلال كبير أو مبالغة.

 

(لقاء المخرج حاتم علي على قناة العربية ومشاهد من تصوير مسلسل عمر).

ومسألة "الشكل/ المظهر" هذه، هي ممّا يحتج به رافضو تجسيد الصحابة والرسل، فهم يتذرعون أحياناً بأن المشاهِد قد تلتصق بذهنه صورة الممثل فيتخيّل الشخصية بها، وهو قول محل جدل بين القائل بأن هذا ليس مشكلة صانع العمل الدرامي والقائل بأن هذه الحجة لها وجاهتها.

وللأمانة، رغم شدة إعجابي بمسلسل عمر، إلا أن عليّ الاعتراف بأن ثمة اختلافات شكلية قد لاحظتها وكنت أرجو من صناع العمل مراعاتها، فعمر مثلاً كان معروفاً بأن له لحية توصف بأنها "عظيمة" حتى أنه إذا نفخ في النار خرج الدخان عبرها، ولكنه لم يكن كذلك في المسلسل، وشخصية عليّ جاءت في هيئة شاب طويل الشعر وسيم الملامح ممشوق القوام طويل القامة، بينما تذكر كتب التاريخ أن الإمام علي كان قصير القامة ذو بطن كبيرة وأنه كان أصلع (ويبدو أن مصمم ماكياج علي قد تأثر بالصورة الشيعية للإمام لأن المظهر جاء متطابقاً معها)، وعثمان بن عفان كان وسيم الملامح بشكل استحق الذكر في كتب التاريخ، وعمرو بن العاص كان قصيراً دميماً ممتلئ الجسد، بينما في المقابل كانت صياغة الشكل لشخصية أبو بكر موفّقة بشدة لشدة تطابق الهيئة مع المذكور عنه في كتب التاريخ من أنه كان ضئيل الحجم نحيف الجسد رقيق الملامح.

إضافة إلى ذلك، فثمة اختلاف في بعض الوقائع، فواقعة المصري الذي ضربه ابن عمرو بن العاص وقال له "أنا ابن الأكرمين" فذهب لعمر الذي استدعى عمرو بن العاص وابنه وأمر المصري بضرب الابن ثم قال "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، هي من الوقائع التي يشكك بعض كتّاب التاريخ في صحتها، وينسبونها لخيال بعض الطاعنين في شخصية عمرو بن العاص من كُتّاب التاريخ، وكان الأحرى أن يتجنب المؤلف هذه الواقعة غير المؤكدة. ولكن دعونا نعترف في النهاية بما سبق قوله من أن الدراما شيء والكتاب التاريخي شيء آخر.

كذلك، ففي موقف استشهاد حمزة، فإن إصابته القاتلة كانت باختراق الحربة لمنطقة ما تحت السُرة وخروجها من بين ساقيه، بينما جاء في العمل أنه تلقاها في جذعه، وفي مشهد اغتيال عمر اختلف الأمر في أن أبو لؤلؤة حين طعن عمراً فإنه قد استدار وصاح "دونكم الكلب فقد قتلني" ولم يسقط مباشرة، فحاول القاتل الهرب وضرب من حوله فقتل ستة منهم قبل أن ينتحر عند إدراكه استحالة الفرار.

***

بالتأكيد فإن هذه الاختلافات ليست ممّا ينتقص من قيمة العمل، ليس كـ"صورة درامية" فحسب، وإنما كخطوة شجاعة لكسر تابوهات الدراما التاريخية، ففترة فجر الإسلام بما فيها من شخصيات وأحداث هي مادة ثرية للدراما، والدراما وإن كانت ليست مصدراً للمعلومة التاريخية، إلا أنها تصلح كعنصر "استفزاز" للمشاهد، للقراءة والبحث في التاريخ، فكيف يمكن أن يقف هذا الحظر للتجسيد، حائلاً بين المبدعين وإخراج أعمال درامية تاريخية رائعة تزيد من أعداد الراغبين في معرفة المزيد عن تاريخهم؟

أعتقد أن تجربة مسلسل "عمر" تستحق ألّا تتوقف عند كونها مجد مسلسل درامي، وأن على صناع الدراما من الراغبين في كسر المحظورات والتابوهات أن يستغلوا صدى نجاحها في أن يحولوها إلى "رأس حربة" لمزيد من الأعمال الدرامية الجريئة في تناولها التاريخ، بالذات ذلك الديني.

--------
اقرأ أيضاً:

الناصر صلاح الدين.. بين دراما يوسف شاهين والواقع التاريخي
المنصور بن أبي عامر..الرجل الذي أنقذ الدولة ثم أسقطها!

مصادر المعلومات:


-البداية والنهاية: ابن كثير

-مجموعة العبقريات الإسلامية: عباس محمود العقاد

-تاريخ الأمم والملوك: الطبري

-الكامل في التاريخ: ابن الأثير

-الاغتيال السياسي في الإسلام: هادي العلوي

-أشهر الاغتيالات في الإسلام: خالد السعيد