موريتانيا.. الألغام تحتلّ الأرض وتوقف التنمية

نواكشوط

يعقوب محمد سالم

avata
يعقوب محمد سالم
10 يوليو 2014
+ الخط -

لم يكن الشاب الموريتاني، القاسم ولد النعمة، لديه أدنى شك في أنه سيعود إلى بيت عائلته بنقود هي في أمسّ الحاجة إليها من عمله، في مجال التعدين، بمدينة أزويرات، في أقصى الشمال الموريتاني الغني بالحديد.. وبالألغام أيضاً.

مليون لغم تنتشر على مساحة 310 آلاف كيلومتر مربع من إجمالي مساحة موريتانيا التي تزيد قليلاً عن مليون كيلومتر مربع. الألغام تهدّد حياة الموريتانيين، تحتل الأرض وتوقف تنميتها وتحرم الموريتانيين من خيراتها الطبيعية والتعدينية.

وِلْد النعمة، ابن الاثنين والعشرين عاماً، عاد الى عائلته بغير ما كان يحلم به، بعدما انفجر لغم مضاد للأفراد به أثناء خروجه من عمله، قرب "بئر أم كرين"، في أقصى الشمال الموريتاني، ما أدى إلى فقدانه إحدى عينيه ويده اليسرى وثلاثة أصابع من يده اليمنى، ليعيش مصاباً بالعجز ولتفقد أسرته مورد دخلها الوحيد.

القاسم، وإن كان واحداً من ضحايا "حرب الألغام"، لكنه من أكثرهم حظاً، لأنه ما زال على قيد الحياة، فخلال السنوات العشر الأخيرة، سجلت حالات وفيات عدة بسبب انفجارات ألغام وبقايا ذخائر في الصحراء الموريتانية.

يعاني القاسم، والضحايا الآخرون، من عدم حصولهم على رعاية طبية كافية، إذ إنهم يعيشون في حالة صحية ونفسية صعبة، في ظل ما يقولون إنه "تقصير" حكومي يعانون منه، رغم الميزانية الكبيرة المرصودة لبرنامج نزع الألغام في موريتانيا.

"البرنامج الوطني الإنساني لنزع الألغام من أجل التنمية"، هذا هو الاسم الرسمي للبرنامج الذي كان تابعاً للهندسة العسكرية بقيادة أركان الجيش، وأصبح مؤسسة حكومية تتبع وزارة الداخلية، وتتمتع بشبه استقلالية إدارية في الدولة الموريتانية.

وتشير الأرقام الرسمية إلى أن المهددين بالألغام في موريتانيا يمثلون 12% من السكان الموجودين في مساحة قدّرتها الجهات المختصة أولا بـ230 ألف كيلومتر مربع (بحسب تقرير رسمي عام 2005)، قبل أن تعلن لاحقاً أنها 310 آلاف كيلومتر مربع، في ثلاث ولايات (محافظات) شمال البلاد، هي تيرس الزمور ونواذيبو وآدرار، حيث يوجد فيها ما يقرب من مليون لغم.

مخطط البرنامج الوطني لنزع الألغام لم ينفّذ كاملاً، حيث كان يتضمن طموحاً بالقضاء النهائي على كافة حقول الألغام في الشمال الموريتاني، مع حلول عام 2011، على الرغم من تدفق تمويلات من دول عدة ومنظمات عبر العالم، لدعم البرنامج، منها الأمم المتحدة، والمركز الدولي لنزع الألغام بجنيف، والولايات المتحدة، وفرنسا، واليابان، والسويد، وكندا.

حلم مؤجّل

تقول آخر الاحصائيات الحكومية إن الألغام حصدت في الفترة الأخيرة أرواح نحو 400 شخص على الأقل، من المسجلين رسمياً، ومئات المصابين، ضمنهم أشخاص بُترت أطرافهم وباتوا عاجزين عن العمل أو الحركة.

وخلال السنوات الأخيرة، قدمت الحكومة الموريتانية، من خلال برنامج نزع الألغام، دعماً مالياً لبعض الضحايا من أجل بدء مشاريع اقتصادية تساعدهم. لكن القاسم، والعديد من ضحايا الألغام، انتظروا طويلاً لعلّ الحظ يجعلهم ضمن إحدى مجموعات الدعم، قبل أن يستسلموا لقدرهم، لكون الأولوية معطاة للفئات الأكثر حاجة من ذوي الإعاقة، بينما القاسم والضحايا مثله لا يصنّفون من ضمن هذه الفئة، رغم أنه فقد إحدى يديه وأصابع من يده الأخرى.

في عام 2010، وضع البرنامج خطة لدعم 150 ضحية، لإنشاء مشاريع صغيرة مدرّة للدخل، بقيمة نحو 670 دولاراً لكل ضحية، وهو مبلغ يرى الشاب القاسم أنه ـ وإذا حصل عليه ـ قد يكون بداية مقبولة، ولكنها متواضعة جداً، خصوصاً مع صعوبة الظروف وغلاء المعيشة.

ذكريات أليمة

أسر الضحايا لا تزال تتذكر جراحها النازفة، ليس فقط بسبب أولئك الذين باتوا من ذوي الإعاقة الجسدية الدائمة، بل أيضاً لذكرى أحبّة فقدوا حياتهم، في طرفة عين، بسبب انفجار لغم نام لعقود تحت الأرض، ليباغت بريئاً يمر عليه.

قبل ثماني سنوات، جرفت السيول حقل ألغام قريب من مدينة أزويرات، وانتشرت في إحدى ضواحي المدينة أجسام اعتقد أطفال الحي أنها ألعاب اكتشفوها فجأة، والتقطوا تلك الألعاب التي لم تكن سوى ألغام مضادة للبشر. ومرّت أيام على ذلك، وانفجر لغم يمسكه طفل في التاسعة من عمره، ليقتله في تلك اللحظة مع شقيقه.

لكن أحداً لم يكن يظن أن خبير الصحراء الموريتانية المعروف، أحمد ولد تيهة، يمكن أن يصبح ضحية الالغام هو الآخر. فقبل 7 أعوام، وفي منطقة "لحداده" القريبة من الحدود الجزائرية، كان ولد تيهة يقود مجموعة سيارات تضم سياحاً عرب، واكتشف فجأة أنهم دخلوا حقل ألغام "خطير"، فأعطى أوامره بضرورة العودة إلى الوراء مباشرة، ومن ثم الرجوع عبر الخط نفسه، لكنه أثناء دوران سيارته، انفجر لغم بها مودياً بحياته في تلك اللحظة، وأصيب عدد من رفاقه.

سقوط الضحايا ليس فقط في المدن أو القرى التي توجد فيها رعاية صحية، لكنه يحدث أحياناً في مناطق صحراوية معزولة وبعيدة، وضحاياها في الغالب من البدو الرحّل، مربي الإبل الباحثين عن مناطق رعي لدوابهم التي غالباً ما يفقدونها كما يفقدون أرواحهم.

طيلة أكثر من ثلاثة عقود ظلت المنطقة الشمالية من موريتانيا، خصوصاً ولاية تيرس، تعرف انتشاراً لحقول ألغام عدة. وعلى طول المثلث الحدودي بين موريتانيا والجزائر، والمناطق الصحراوية الواقعة تحت السيادة المغربية، توجد مناطق ملغّمة بالكامل.

سكان في المنطقة الشمالية من موريتانيا، قالوا لـ"العربي الجديد": إن فرق البحث عثرت طيلة السنوات الماضية على حقول ألغام متفرقة وخطيرة جداً، حيث كان مقاتلو البوليساريو يضعون أكياساً مليئة بالألغام في أماكن متفرقة بشكل عشوائي، أثناء مطاردة الجيش الموريتاني لهم وسط ولاية تيرس التي تشكل ثلث مساحة موريتانيا، وولاية نواذيبو التي تعتبر منفذاً استراتيجياً على المحيط الأطلسي، وذلك دون وجود أي خرائط تبيّن مواقع حقول الألغام.

ضابط في الجيش الموريتاني، رفض ذكر اسمه، قال لـ"العربي الجديد"، إن الجيش المغربي غادر المناطق التي كان يرابط فيها بموريتانيا لمواجهة البوليساريو دون أن يترك خرائط بالألغام التي زرعها هو أيضاً في محيط أزويرات، التي كان يحميها من مقاتلي جبهة البوليساريو.

بصيص أمل

المشهد المأساوي السابق لا يمثّل الصورة الكلية للأمر في ولاية تيرس الزمور، التي "باتت منطقة آمنة ونظيفة"، بحسب ما أعلنه البرنامج الوطني لنزع الألغام، العام الماضي (2013)، وذلك بعد إكمال آخر مراحل التطهير في محيط مدنها الكبرى الثلاث: أزويرات وأفديرك وبئر أم أكرين، وفي الأخيرة كان يوجد أكبر الحقول، بل إنها ظلت محاصرة من ثلاث جهات لفترة طويلة، إضافة إلى المناطق الصحراوية الشاسعة، والتأكد من عدم وجود بقايا ألغام أو ذخائر أو أجسام قابلة للانفجار، في مساحة قدرها 5 ملايين متر مربع.

العقيد ولد محمد الحسن، قال إن البرنامج، الذي يديره، قام بحملة توعية واسعة داخل الولايات "الملغومة" لتوزيع أدوات التوعية، كدفاتر للتلاميذ وكتب وقمصان وإشارات وملصقات.

منظمات المجتمع المدني هي الأخرى، عملت جاهدة طيلة السنوات الماضية من أجل توعية السكان بخطورة الوضع وتقديم المساعدة للضحايا.

أما محمد سالم ولد أحمد، رئيس منظمة "النجدة" لمساعدة المصابين بالألغام، فقال إن جهود التوعية آتت أُكُلها، خصوصاً في أوساط البدو الرُحّل وخصوصاً من غير أبناء المنطقة، الذين لا يعرفون شيئاً عن الألغام.

وأضاف ولد أحمد، لـ"العربي الجديد"، أنه لاحظ تراجعاً كبيراً في حجم الإصابات مقارنة مع الماضي، حيث أصبح السكان يتصلون على هواتف معلنة تتبع لمكتب نزع الألغام ويبلغون عن أي جسم غريب يكتشفونه، "لكنها عملية متعبة، إذ في الغالب لا تكون هذه الأجسام ألغاماً، ولا نكتشف ذلك إلا حين نقطع مسافة طويلة برفقة المهندسين العسكريين"، بحسب ولد أحمد.

حرب متواصلة

رغم إعلان تطهير ولاية تيرس وعدم تسجيل أي حالة انفجار للغم خلال السنوات الثلاث الأخيرة، فإن ولايتي نواذيبو وآدرار لا زالت تحت التهديد، نظراً لاستمرار وجود حقول ألغام مترامية في منطقة متفرقة تهدد المسافرين والسكان معاً، لكن "البرنامج الوطني الإنساني لنزع الألغام" يواصل حربه الصامتة ضد الألغام في الولايتين.

ولفت العقيد علي ولد محمد الحسن، الذي يقود "الحرب" ضد الألغام، إلى أن تنقّل الرمال وعدم وجود الحواجز الطبيعية، وغياب الخرائط، يجعل عمليات نزع الألغام صعبة في هذه المناطق، إضافة إلى النقص في الوسائل البشرية والتكنولوجية وغياب الوعي لدى السكان بخطورة التهديدات.

وفي انتظار الإعلان النهائي عن تطهير الأراضي الموريتانية من حقول الألغام العشوائية، يظل الشاب القاسم ولد النعمة متشبّثاً بأمل يشاطره إياه عشرات المصابين بأن يجدوا المساعدة ليتمكنوا من العودة إلى سكة قطار الحياة.

 

دلالات