تعوم محافظة البصرة على بحر من النفط، وتتلقى استثمارات خارجية بمئات الملايين من الدولارات، بينما يعيش أهلها فقراً مدقعاً ويعانون البطالة، في ظل غياب الدولة التي تركتهم للنزاعات العشائرية المسلحة وابتزاز الشركات.
- اضطر العراقي محمد الوائلي وأسرته المؤلفة من خمسة أفراد إلى ترك منزلهم في منطقة أبو صخير التابعة لناحية كرمة علي شمال البصرة، نهاية العام الماضي، خوفا على حياتهم بسبب النزاعات العشائرية المتكررة، والتي تعد نموذجا متكررا يرصده عضو مفوضية حقوق الإنسان، فاضل الغراوي كما يقول لـ"العربي الجديد" مضيفا أن: "سلاح العشائر تهديد حقيقي لحياة المدنيين"، وهؤلاء يسقطون ضحايا نزاعات لا علاقة لهم بها وغير منخرطين فيها، بحسب إفادة رئيس لجنة حل النزاعات العشائرية في ديوان محافظة البصرة محمد الزيداوي.
وسجلت المحافظات الجنوبية الثلاث البصرة، وميسان، والناصرية 321 نزاعا عشائريا مسلحا، منها 140 نزاعا في البصرة راح ضحيتها 14 شخصا و50 جريحا خلال عام 2020، بحسب النائب ميزر حمادي سلطان رئيس لجنة المصالحة والعشائر في البرلمان العراقي.
وخلال العامين الماضيين شهدت البصرة وحدها 280 نزاعا مسلحا، سقط فيها 35 قتيلا و74 جريحا، بحسب الزيداوي، والذي أوضح أن: "القوات الأمنية نفذت 1400 مذكرة اعتقال بحق مفتعلي النزاعات منذ 2019 وحتى الربع الأول من عام 2021، وتتفاقم الظاهرة إذ نشب 15 نزاعا مسلحا في الربع الأول من العام الجاري، راح ضحيتها 11 شخصاً".
جغرافية النزاعات العشائرية
تسجل الأقضية التابعة للبصرة مثل الهارثة والقرنة والمدينة ما نسبته 85% من النزاعات العشائرية، بسبب قربها من الحقول النفطية التي تشكل سببا أساسيا للصراع بين العشائر من أجل الحصول على وظائف في الشركات العاملة بها، أو تعويضات إن اكتشف النفط في أراض تابعة لإحداها، كما سُجلت نزاعات أخرى في مناطق غرب البصرة كالحيانية ووسطها كالتميمية والجمهورية والموفقية والعالية، وفقاً للعميد أمجد قاسم مدير شرطة المدينة، والذي يؤكد توثيق نزوح 13 عائلة في تلك المناطق تاركين بساتينهم وبيوتهم بسبب النزاعات المسلحة، التي يصفها النائب سلطان بـ"الظاهرة المستفحلة" نتيجة السلاح المنفلت وضعف الأجهزة الأمنية.
ويلعب تدهور الوضع المعيشي دورا أساسيا في تصاعد النزاعات بالبصرة التي وصلت نسبة الفقر فيها إلى 40% وفقا لما وثقه مكتب مفوضية حقوق الإنسان بالمدينة، والذي قال في بيان صدر بتاريخ 26 يونيو/حزيران 2020، أن "الأوضاع الاقتصادية السيئة فاقمت نسبة الفقر في المحافظة، وأن ثروات المحافظة لا تجلب على سكانها سوى المزيد من الآثار القاتلة من الأمراض والبطالة ونقص في الحرث والنسل".
سجلت المحافظات الجنوبية 321 نزاعاً عشائرياً عام 2020
وتتفاقم الأوضاع على الرغم من أن البصرة يمكن وصفها بـ"عاصمة النفط"، إذ بلغ حجم الاستثمارات فيها خلال العام الماضي فقط 560 مليون دولار، وفقا لما أعلنه علاء عبد الحسين رئيس هيئة استثمار البصرة، خلال مؤتمر صحافي في 31 يناير/كانون الثاني 2021، مؤكدا أن 15 مشروعا استثماريا حازت الإجازة الاستثمارية في محافظة البصرة خلال العام المنصرم، ليبلغ إجمالي المشاريع الاستثمارية المجازة 161 مشروعا، 52% منها استثمارات عراقية، و43% أجنبية، أما المشتركة فبلغت نسبتها 5%.
هذه الحال، بحسب الزيداوي، تدفع العشائر إلى المطالبة بتوفير فرص عمل لأبنائها عبر التهديد وبالسلاح وابتزاز الشركات المستثمرة في ظل البطالة المتفشية التي وصلت نسبتها بين الشباب إلى 30.5%، بحسب آخر إحصائية أعلنها الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط العراقية عام 2018، وبلغت نسبة البطالة في محافظة البصرة لوحدها 7.6% وهي ثاني محافظة من حيث معدلات البطالة المرتفعة، بعد محافظة المثنى جنوبي البلاد.
ومن بين تلك الحوادث، إقدام عشيرة "بيت وافي" في محافظة البصرة، على إغلاق حقل مجنون النفطي شرقي المحافظة في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، والذي تستثمر فيه شركتا الصين للهندسة والإنشاءات البترولية (CPECC) و"بتروفاك" البريطانية، للمطالبة بتعويض مالي مقابل وضع اليد على أراض تعود لها بعد اكتشاف النفط فيها، وعادت العشيرة في 26 أكتوبر/تشرين الأول عام 2020 وقطعت الطرق المؤدية إلى الحقل، ومنعت العاملين من الوصول إليه، للمطالبة بتوفير فرص عمل لأبنائها وفقاً لإفادة المقدم في شرطة محافظة البصرة قصي الطائي.
لماذا تتفاقم الظاهرة؟
اضطرت شركة دايو الكورية المنفذة لأرصفة مشروع كاسر الأمواج في ميناء الفاو الكبير جنوب البصرة إلى دفع مبلغ عشرة ملايين دينار عراقي (7000 دولار) لعشيرة الفضول في 10 يونيو/حزيران 2016، تعويضا لأحد أبناء العشيرة بعدما تشاجر مع عامل في الشركة، وحينها اشترطت العشيرة على الشركة دفع الفصل العشائري (التعويض المتفق عليه في صلح عشائري عرفي) ومنح العامل إجازة لمدة شهرين بمرتب كامل، مقابل التنازل عن ملاحقة العامل الكوري، وفقا للشيخ الزيداوي.
وعادة ما تلجأ الشركات الاستثمارية العاملة في العراق إلى حسم خلافاتها مع العشائر المحيطة بجغرافية مشاريعها رضائيا، عبر دفع مبالغ مالية وتوفير فرص العمل لأبنائها، من دون اللجوء إلى رفع شكاوى رسمية للجهات الحكومية، بهدف اتقاء شر العشائر وسلاحها، بحسب إفادة المستشار الاقتصادي ضرغام محمد، مؤكدا أن "حلول التراضي تعد سببا لاستفحال الظاهرة".
وتصادر وزارة النفط الأراضي بموجب قانون الحفاظ على الثروة الهيدروكربونية رقم 84 لعام 1985، والذي يمنحها حق الاستيلاء على الأراضي لتنفيذ مشاريع نفطية، بعد تعويض أصحابها بمبالغ مالية، ويعد الصراع على التعويضات النفطية وفرص العمل سببان رئيسيان لابتزاز العشائر للشركات الأجنبية، بحسب الشيخ رائد الفريجي رئيس مجلس عشائر البصرة، وبالتالي باتت النزاعات والابتزاز من قبل العشائر عاملا طاردا للاستثمارات الأجنبية جنوب العراق كما يرصد النائب سلطان، إذ هددت شركة بتروناس الماليزية للنفط والغاز الطبيعي في الثامن عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2020 بمغادرة حقل الغراف النفطي في محافظة ذي قار، بسبب ضغوط من عشائر تسكن بالقرب من الحقل للحصول على وظائف لأبنائها، حسب ما يقول رئيس لجنة الطاقة في المجلس السابق لمحافظة ذي قار، يحيى المشرفاوي، وقبل ذلك كانت شركة CPECC الصينية والتي عملت على تطوير الإنتاج النفطي في حقل الغراف تعرضت لإطلاق نار متكرر في مارس/آذار 2017 استهدف آلياتها العاملة في منطقة عشائر الشويلات بالمحافظة. بحسب مصادر التحقيق.
مكونات ترسانة العشائر
عثرت القوات الأمنية خلال عمليات تفتيش شملت عشائر المحافظات الجنوبية على أسلحة مثل الرشاش الروسي المتوسط BKC والقذائف الصاروخية RPG والكلاشنكوف، بحسب قائد عمليات البصرة سابقا، اللواء أكرم صدام، والذي قال لـ"العربي الجديد" أن بعض العشائر تتعاون مع الأجهزة الأمنية في تسليم ما لديها من أسلحة بينما تتمرد أخرى.
ويقرّ عبد المحسن العلي شيخ عشيرة آل جاسب في محافظة ميسان جنوبي العاصمة بأن ترسانة بعض العشائر من الأسلحة تفوق إمكانيات الأجهزة الأمنية، وهو ما أسهم في اتساع ظاهرة "مخاطر التعاطي مع السلاح".
تفاقم الفقر والبطالة في البصرة جعلها مركزاً للمعارك العشائرية
وعززت العشائر ترسانتها عبر استيلائها على مخازن أسلحة الجيش العراقي المنسحب عقب اجتياح القوات الأميركية البلاد عام 2003، بالإضافة إلى حصولها على أسلحة نوعية عبر التهريب وفق عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية كاطع الركابي، لكن الخبير الأمني والضابط سابقا في الجيش العراقي أحمد الشريفي يرد اتساع ترسانة أسلحة العشائر إلى حصولها على بعض الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والتي كانت تدخل من إيران لدعم الفصائل المسلحة في حربها ضد داعش، وشراء القسم الآخر من غنائم الأسلحة التي استولى عليها بعض عناصر الحشد خلال المواجهات مع داعش كبندقيتي القنص الإيرانيتين شاهر والصياد Al Sayad.
وتتباين أسعار تلك الأسلحة في أسواق البيع حسب نوعها وصناعتها، وفقا للعميد المتقاعد في الجيش العراقي حبيب العادلي والذي قال إن سعر بندقية الكلاشنكوف الروسية يتراوح بين 800 إلى 1000 دولار أميركي، فيما يبلغ سعر المسدس 2500 دولار، وسعر الرشاش BKC يقدر بحوالي 4000 دولار، أما سعر قاذفة RBG7 فيقدر بـ 7000 دولار.
ماذا فعلت وزارة الداخلية؟
تسعى وزارة الداخلية إلى فرض سيطرتها على النزاعات العشائرية المسلحة في مدن الجنوب، إذ قامت مطلع سبتمبر/ أيلول 2020 بتشكيل قوات خاصة في المحافظات الجنوبية الثلاث للحيلولة دون اتساع النزاعات العشائرية، وفقا للمتحدث باسم وزارة الداخلية اللواء خالد المحنا والذي يوضح أن الوزارة قامت خلال الربع الأول من عام 2021 باعتقال 250 شخصا متهمين بافتعال النزاعات العشائرية، وصادر الأمن خمسة آلاف قطعة سلاح بين المتوسط والخفيف في محافظتي البصرة والناصرية خلال عمليات تفتيش لمناطق نزاعات عشائرية جرت خلال عامي 2019 و2020.
وشكلت مديرية شؤون العشائر التابعة للوزارة لجانا مهمتها اقتراح حلول للمشكلات وتقريب وجهات النظر بين المتنازعين، وهو حل وفقا للمحنا، يأتي للحد من تأثير سلاح العشائر على انفلات الواقع الأمني. لكن الركابي يرى أن إجراءات وزارة الداخلية في السيطرة على سلاح العشائر "فاشلة" على حدّ وصفه، ولم تنجح في تأدية الغرض، قائلا إن "السلاح المنفلت ما كان ليصل إلى هذا الحد، لولا ضعف الدولة في بسط القانون وتطبيق النظام".
وقاد الشيخ ضرغام المالكي، شيخ عشيرة بني مالك في البصرة، مبادرة تتضمن قيام الحكومة بشراء السلاح المتوسط والثقيل الذي بحوزة العشائر، أو توفير فرص عمل لأبنائهم في شهر كانون الثاني/يناير من العام 2021 ، لكنه يبدي تخوفه من عدم تعاطي الحكومة مع بنود المبادرة المقترحة.
وفي ظل هذه المحاولات، تستمر "الدّكات العشائرية" التي تتمثل بقيام مسلحين ينتمون لعشيرة ما على تهديد عائلة من عشيرة أخرى، وفقاً لرصد معدّ التحقيق، على الرغم من توجيه صادر عن مجلس القضاء الأعلى إلى محاكم الاستئناف في كافة محافظات البلاد، في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني عام 2018، للتعامل مع قضايا "الدكات العشائرية" وفق قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لسنة 2005.
استغلال العشائر في الصراع الحزبي
تسهل أحزاب سياسية عملية منح عشائر موافقات خاصة لحمل السلاح، لكسب أصواتهم انتخابياً، بالاستعانة بقانون الأسلحة رقم 51 لسنة 2017، الذي يقضي بأنه يحق لوزير الداخلية منح إجازة حيازة وحمل السلاح الناري لبعض الفئات التي يحددها، وفقاً لمعطيات الواقع الأمني. كما يوضح الشيخ ضرغام المالكي.
ويصف الخبير الأمني أحمد الشريفي الخطوة السابقة، وتفاقم النزاعات العشائرية الجارية في المحافظات العراقية الجنوبية، بأنها صراعات مناطقية تجري بغطاء حزبي بهدف تعبئة الشارع واستثمار البعد القبلي لكسب ولاء العشيرة، عبر شيوخ صنعتهم أحزاب وتسيطر على ولائهم، مؤكداً أنَّ العديد من الخلافات العشائرية تنبع من محركات سياسية وتسعى لتحقيق مآرب حزبية.
ما يقوله الخبير الأمني يؤكده الزيداوي، مشيرا إلى أن محاولات بعض الأحزاب الحاكمة لكسب ولاء العشائر في المحافظات الجنوبية تعتمد على مصالح سياسية وحزبية، ويدفع بعضها العشائر لافتعال نزاع مسلح هدفه كسر شوكة أخرى، تتبع لجهة سياسية منافسة.