أوباما في القاهرة
12 يونيو 2024
+ الخط -
اظهر الملخص
- أوباما يسلط الضوء على التحديات التي تواجه الديمقراطية الأمريكية، مشيرًا إلى الانقسام العميق بين المواطنين بسبب عدم الاتفاق على قاعدة مشتركة من الحقائق، ويؤكد على أهمية الحقائق المشتركة للحفاظ على الديمقراطية.
- ينتقد استغلال وسائل التواصل الاجتماعي وخوارزمياتها في تعزيز الانقسام والاستقطاب داخل المجتمع الأمريكي، مما يسهل التأثيرات الخارجية ويضعف مناعة البلاد ضد التحديات.
- يقارن بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة ومصر، مبينًا كيف تساهم في تعميق الانقسامات وتقليل قدرة المجتمعات على التوحد حول قضايا مشتركة، مما يضعف مناعة البلاد ضد التحديات.

في لقائه مع مقدم البرامج ديفيد ليترمان، رد الرئيس السابق باراك أوباما على سؤال للمحاور ما هو الأكثر ضررا على الديمقراطية؟ بأن واحدا من أكبر التحديات التي تواجهها ديمقراطيتنا هي الدرجة الكبيرة من عدم اشتراكنا في قاعدة أساسية واحدة للحقائق، وهو ما التفت إليه السيناتور دانيال باتريك مونيهان من نيويورك (1927 – 2003) خلال مناظرة مع أحد زملائه الأقل قدرة منه على المعرفة وإدراك الحقائق، بعدما رد عليه غاضبا "حسنا يا سيناتور مونيهان هذا هو رأيك أنت فقط، وأنا لي رأي مختلف"، فما كان من مونيهان إلا أن أجابه بحكمة "بالفعل من حقك يا سيدي أن يكون لك رأيك الخاص، لكن ليس من حقك أن تكون لك حقائقك الخاصة".

يشرح أوباما كيف يؤدي نشوء عالمين مختلفين من المعلومات والحقائق في بلد واحد إلى تدمير مناعته الذاتية، وهي أداة نجح الروس في استخدامها للنفاذ إلى داخل العقل الأميركي قبل وخلال الانتخابات التي أوصلت الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حتى إن الأمر وصل إلى أن يكون "في بلدنا عالمان مختلفان تماما من المعلومات، في حال كنت تشاهد فوكس نيوز فأنت تعيش على كوكب مختلف تماما عمن يستمع إلى "إن بي آر" (إذاعة أميركية حكومية إخبارية)".

الحالة السابقة تغذيها خوارزميات وسائل التواصل والتي تصل إلى ما يوجد داخل عقلك عبر هاتفك، ومن ثم تقوي انحيازاتك المعرفية، وتحيطك بآراء مؤيدة لتوجهاتك وقناعتك، كما قال أوباما الذي ضرب مثالا بتجربة مهمة ومثيرة جرت في ميدان التحرير وقت ثورة 2011 في مصر، وشارك فيها شخص ليبرالي وآخر محافظ وآخر وسطي متحرر، بحث كل منهم عبر غوغل على كلمة مصر، هنا ظهر للشخص المحافظ نتائج عن الإخوان المسلمين، والليبرالي عن ميدان التحرير، والوسطي المتحرر عن أماكن لقضاء عطلة على النيل، وبالتالي طبقا لتحيزاتك يتم إرسالك عبر الخوارزميات إلى مكان محدد، ويتعزز الأمر أكثر وأكثر مع مرور الوقت، وفي مرحلة معنية تعيش في فقاعة، "وهذا سبب الاستقطاب الحاصل الآن" يقصد في أميركا ولكن المثال ينطبق على الجميع بما فيهم مصر، لأنه "على ما يبدو أن أداة قيمة (وسائل التواصل) تحولت إلى سلاح ضدنا"، قال ليترمان.

وعلى النقيض من أميركا التي لا يمكن لحكومتها استخدام هذه الأداة لفرض رواية على الشعب، بسبب طبيعة نظامها السياسي والاقتصادي وتقاليدها الديمقراطية، إلا أن السلطة في مصر تلجأ إليها وتبث روايات محددة لكل حادثة في مقابل رواية أخرى لدى المجتمع (محايدين ومعارضين) ومن ثم يعيش كل فريق في عالم مختلف من وجهات النظر المهيمنة، في ظل تغييب الحقائق بينما تسود وجهات النظر كما ذكر أوباما، ليتقوقع كل فريق في فقاعة على شكل كرة مملوءة بتصورات محددة لا يمكن التأكد من مصداقيتها ومع كل حادثة تنمو أكثر بينما تَطْفُو على صفحة مجتمع يتحرك ويغلي، لكنه فاقد الاتجاه والبوصلة بسبب إغلاق سبل الوعي والفهم والإصلاح.

تتعدد أشكال وأنواع هذه الفقاعات وتنمو مع تراكم وجهات النظر غير المبنية على حقائق، على سبيل المثال اقتصاديا، تفاصيل حياة قاطني الكمبوندات الثرية الخضراء والمنعزلة عن زحام القاهرة، والتي تحاصر إعلاناتها أكثرية المصريين الذين لا يستطيع أكثرهم شراء متر واحد فيها، في مقابل أوضاع وأحلام وآلام الفقراء القابعين في منازلهم وأحيائهم المجدبة والمتكدسة، كما طبقيا تتكون لدى كل فئة من هؤلاء هواجسها الملحة ومشاكلها المتباينة تماما عن غيرها على سبيل المثال، بينما تعاني طبقة من سائقي شركة أوبر، نجد أخرى غرق لها عشر فتيات كن يركبن حافلة صغيرة (ميكروباص) للذهاب إلى عملهن بمزرعة في محافظة الجيزة، وتتقاضى الواحدة منهن 120 جنيها (حوالى 2.5 دولار) نظير العمل من الفجر حتى نهاية اليوم، وهو ذات المبلغ الذي تنفقه فتيات في عمرهن على رحلة تاكسي أوبر التي تستغرق 30 دقيقة مثلا، ليعدن إلى بيوتهن وكمبونداتهن، بينما لم تعد تلك الفتيات إلى قريتهن في محافظة المنوفية، ولا تدري كل طبقة منهم شيئا عن الأخرى وبالتالي لا يمكنها التعاطف وبناء الوطن معها.

الانقسامات هذه بلغت حدا غير معقول من غياب القدرة المجتمعية على أي اتفاق، على قضايا شديدة الخطورة تمس حياة البلاد والعباد مثل سد النهضة أو الاقتراض ومخاطره وتقييم ضرروته ورفع الدعم السلعي المقدم للفقراء أو الإبقاء عليه، ووصلت إلى قضايا أقل أهمية من قبيل قطع الأشجار التي ترى السلطة عبر ممثليها رأيا، بينما الآخرون لا يتفقون معها وكذلك قطع التيار الكهربائي أو استمراره في مقابل زيادة أعباء الميزانية.

ومن ثم يغذي الاستقطاب والبيئة الإعلامية الممزقة وغير الحرة نشوء الفقاعات والانشطار المعرفي، ليتشظى المصريون وتنمو مخاوفهم من بعضهم، وبالتالي يسهل السيطرة عليهم وحكمهم كلما تراجعت قدرتهم الجماعية على الاتفاق على حقائق محددة، أي أنهم لا يمكنهم خلق مشتركات في الحاضر، وبالطبع تغيب عنهم أي إمكانية لنشوء ذاكرة جماعية مشتركة، ويصبح كل حدث مسار تشكيك بين فرق متعددة، وهكذا تنمو نظريات المؤامرة ويقل الوعي ويفقد الشعب مناعته الوطنية، ما قد يسهل من مهمات أي عدو داخلي أو خارجي في التلاعب به واختراقه بسبب إصرار السلطة على السيطرة على ما يسمعه ويراه ويقرأه ومن يخالف وجهة نظرها وما تبثه، فعليه دفع الثمن.