يقاتل أبناء إثنية روسية تسمى "القوزاق" في حرب أوكرانيا بعد مساهمتهم الفعالة في حرب الدونباس عامي 2014 و2015، ومن قبلها نزاعات عدة دارت على أراضي الإمبراطورية الروسية التي اعتمدت عليهم مثل فاغنر في الوقت الحالي.
- يعتبر المندوب المفوض لمجلس أتامانات روسيا (أمراء القوزاق)، غينادي كوفاليوف، المقاطع المصورة التي يزخر بها الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي عن مشاركة القوزاق (مجموعة إثنية للسلافيين الشرقيين) في أعمال القتال الجاري في أوكرانيا بأنها "حالات أقرب إلى كونها فردية منها إلى اعتبارها تمثل ظاهرة"، كما يقول لـ"العربي الجديد"، مبرراً رأيه بأن السلطات تخشى القوزاق الذين تمتعوا منذ عصر روسيا القيصرية بحقوق واسعة في حمل السلاح وتشكيل مجموعات مقاتلة، "أي أنهم يعدون النموذج الأولي للشركات العسكرية الخاصة، إذ ظهروا في القرنين السادس عشر والسابع عشر"، كما يصف دورهم الأستاذ بقسم التاريخ الوطني والمتخصص في التاريخ الحديث بالجامعة الجنوبية الفيدرالية الروسية، أندريه فينكوف.
من هم القوزاق؟
يقيم مكتب الدراسات العسكرية الخارجية التابع للجيش الأميركي في تقرير بعنوان "الشركات العسكرية الروسية الخاصة: مجموعة متنامية من الأدوات في الإستراتيجية" صدر في أغسطس/ آب عام 2019، القوزاق بأنهم "مليشيا مدنية تعتمد منظماتها على قرون من التقاليد الروسية في مجالات توفير الأمن والقتال والمهام المدنية تجمع بين كونها أقدم نموذج للشركات العسكرية الخاصة وتراث ثقافي ثري".
ويلفت التقرير إلى مشاركة القوزاق في نزاعي الإقليمين الانفصاليين ترانسنيستريا في مولدافيا وأبخازيا في جورجيا في بداية تسعينيات القرن الماضي، مقرّاً في الوقت نفسه بأن المساهمة الكبرى من القوزاق جاءت أثناء الحرب في دونباس في عامي 2014 و2015، معتبراً في الوقت نفسه أن قوزاق القرن الـ21 باتوا أقرب إلى "تراث ثقافي".
واتسم القوزاق بأنهم كانوا القوة المقاتلة الأكثر كفاءة في جيش روسيا القيصرية، كما يوضح فينكوف، ويتشكلون من طبقة عسكرية مكونة من الفلاحين الهاربين من القنانة (حالة من الرق) على الأطراف الجنوبية والجنوبية - الشرقية للدولة الروسية، وبحلول عام 1916، بلغ عدد القوزاق في روسيا نحو 4.4 ملايين فرد، وكان ما يقارب من نصف مليون منهم يؤدون الخدمة العسكرية، لكن بحسب التعداد السكاني الذي أجري في عام 2010 بلغ عدد من يعرفون قوميتهم وهويتهم باعتبارهم قوزاق 67.5 ألف فرد، يقيم نحو 80 في المائة منهم في الدائرة الفيدرالية الجنوبية.
ويحافظ القوزاق على هويتهم وتقاليدهم حتى اليوم، كما يوضح عضو مجلس العلاقات بين القوميات التابع للرئاسة الروسية، بوغدان بيزبالكو، قائلاً، في حديث لـ"العربي الجديد": "القوزاق طبقة عسكرية خاصة تكوّنت على حدود الدولة الروسية في الحقبة القيصرية، وكانوا حينها يؤدون دور حرس الحدود. أما الآن، فأصبح هؤلاء أشخاصاً لهم ذاكرة تاريخية وتقاليد ذات صلة بالخدمة العسكرية. لذلك يتسمون بدرجة عالية من النشاط والمهارات القتالية والتنظيم الذاتي".
وتعني كلمة القوزاق من انشق عن عشيرته، وهي تركية الأصل، وفق ما يوضحه فينكوف، قائلاً: "كان من الصعب على المرء النجاة بمفرده، فاتحد هؤلاء المنشقون وقاموا بأعمال قطع الطرق وقدموا أنفسهم كقوات مرتزقة".
و"اختلفت هذه المجموعات عن مثيلاتها التركية من جهة اللغة والديانة، ولذلك لم تتحد معها"، ومن اللافت أن التوترات الإثنية بين القوزاق والأتراك استمرت حتى القرن الواحد والعشرين، إذ اندلعت اشتباكات بين القوزاق المحليين وأبناء أقلية الأتراك المسخيت في إقليم كراسنودار جنوب روسيا، وبالتالي أسفرت عن تهجير واسع النطاق للأقلية التركية من الإقليم بحلول عام 2005، وفق ما رصده معد التحقيق عبر الأرشيفات الإلكترونية للصحف الروسية.
تحجيم دور القوزاق
تغلب الأنشطة الاجتماعية والثقافية، مثل المهرجانات والمعارض، على أعمال القوزاق، كما يعتقد كوفاليوف أتامان قوزاق منطقة الأورال، قائلاً لـ"العربي الجديد": "يبدو أن السلطة تخشى من القوزاق، ولا تسلمهم سلاحاً، رغم أنه كان يقال تاريخياً إن القوزاق بلا بندقية ليس قوزاقاً، بينما القوزاق المشاركون في أعمال القتال في أوكرانيا يمكن اعتبار جهودهم مبادرات فردية ولا يتم ذلك بصورة منظمة".
تهجير واسع النطاق للأقلية التركية من إقليم كراسنودار الروسي في عام 2005
وتعرض القوزاق لعمليات قمع عنيفة أسفرت عن انخفاض أعداد المقيمين على ضفاف نهر الدون جنوبي البلاد، بمقدار النصف بحلول عام 1921، في ظل تداعيات الثورة البلشفية في عام 1917 واندلاع الحرب الأهلية بين الحرسين الأبيض والأحمر، وهو ما يعلق عليه كوفاليوف، مضيفاً: "في عهد الإمبراطورية الروسية، كان جميع حراس القيصر من القوزاق، ما يعني أنه كان يثق بهم ثقة مطلقة. لكن في بداية عهد الاتحاد السوفييتي، عائلات كاملة أعدمت رمياً بالرصاص لمجرد العثور عند أحد أفرادها على حزام كتف قوزاقي".
وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، صدر قانون "رد الاعتبار للشعوب التي تعرضت للقمع" ليشمل القوزاق، فعادوا مرة أخرى إلى البحث عن هويتهم داخل المجتمع الروسي والاندماج فيه. وتطور الأمر في عام 2005، إذ صدر القانون الفيدرالي رقم 154 "حول الخدمة العامة للقوزاق الروس"، ولكن كوفاليوف يقلل من أهمية الإجراءات التشريعية كهذه، قائلاً: "بعد مرور ثلاثة عقود على تفكك الاتحاد السوفييتي، لم يترجم أي قانون خاص بالقوزاق إلى التطبيق على أرض الواقع، وقد أعدت بواسطة موظفين حكوميين وحدهم، وهو يشككون في ولاء القوزاق من أساسه. سبق لنا أن اقترحنا على السلطات الروسية توظيف القوزاق لحراسة الحدود وإنشاء تشكيلات على غرار تلك في الإمبراطورية الروسية، ولكن مبادراتنا لم تلاق قبولاً".
هل يصبح القوزاق بديلاً لـ"فاغنر"؟
بعد التمرد الذي قاده مؤسس شركة "فاغنر" العسكرية الخاصة، يفغيني بريغوجين، وإبعاد مقاتليها عن ساحة المعركة في أوكرانيا، يعتقد المنسق الإعلامي للقوزاق بالدائرة الفيدرالية الوسطى الروسية، فاليري روزانوف، أن القوزاق يمكنهم أن يصبحوا بديلاً للشركات العسكرية الخاصة، نظراً لما يتمتعون به من خبرة قتالية.
ويقول روزانوف في حديث لـ"العربي الجديد": "نعمل على جعل القوزاق بديلاً للشركات العسكرية الخاصة، خاصة أن بعضهم قد سبق لهم أداء مهام ضمن شركة "فاغنر"، ولكنهم يدينون بالولاء لروسيا لا للشركة. وحتى إذا كان من بينهم من شاركوا في تمرد "فاغنر"، فقاموا بذلك نتيجة لعدم فهمهم لما يجري بشكل كامل والتزاماً منهم بالأوامر".
من جانب آخر، يشكك الخبير المستقل في شؤون الشركات العسكرية الخاصة، رئيس تحرير موقع "تشي في كا إنفو" المعني بشؤون الشركات العسكرية، يفغيني بيرسينيف في إمكانية أن يحل القوزاق محل "فاغنر"، قائلاً في حديث لـ"العربي الجديد": "بعد ثورة 1917، أصبح القوزاق في حالة من الفراغ القانوني، وقام البلاشفة بعملية نزع القوزاقية تنفيذاً لقوانينهم، ولم يتم إعادة إحيائها على مستوى القانون سوى بعد تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991، ولكن وضعهم لا يزال غامضاً من وجهة النظر القانونية".
وحول رؤيته لدمج القوزاق في منظومة الشركات العسكرية الخاصة، يضيف: "نظرياً يمكن للقوزاق إيجاد مكانهم بين الشركات العسكرية الخاصة، ولكنني أشك في ذلك، لأنه لا توجد اليوم تقسيمة طبقية على غرار تلك القائمة في عهد الإمبراطورية الروسية والتي كان القوزاق واحداً من مكوناتها".
ويشكك بيزبالكو هو الآخر في واقعية إنشاء شركة عسكرية خاصة للقوزاق، قائلاً: "في الظروف الراهنة، يحقق القوزاق فائدة كبيرة على الجبهة، حيث تتميز وحداتهم بفاعلية عالية للغاية، ولكن المسألة تكمن في أن الشركات العسكرية الخاصة غير مقننة في روسيا، وبالتالي، فإن هذه القضية غير مطروحة حالياً".
الشركات العسكرية في قلب المنظومة الروسية
من بين المفارقات التاريخية، أن تمردا للقوزاق بقيادة أتامان قوزاق الدون، كوندراتي بولافين وقع في عام 1707، حين هاجم أنصاره مجموعة عسكرية حكومية في مناطق نهر الدون ومالوروسيا (تسمية الأراضي الأوكرانية الحالية في زمن الإمبراطورية الروسية)، بالقرب من مدينة روستوف على الدون الواقعة على مقربة من الحدود مع أوكرانيا والتي بدأ بريغوجين تمرده منها في يونيو/ حزيران الماضي قبل مقتله في حادثة طيران بعدها بنحو شهرين.
إلا أن الباحث في معهد الفلسفة التابع لأكاديمية العلوم الروسية، أركادي نيديل، يرى فارقاً بين تمرد القوزاق و"فاغنر"، قائلاً لـ"العربي الجديد": "لم يكن تمرد "فاغنر" هو الأول من نوعه، ويعلم هواة التاريخ بقصص كوندراتي بولافين وستيبان رازين وإميليان بوغاتشوف والذين كانت السلطة السوفييتية تمجدهم كمناضلين قادوا تمردات ضد النظام القيصري من أجل حقوق البسطاء".
تمرد القوزاق على الإمبراطورية مثلما فعلت فاغنر في عهد الجمهورية
ومنذ القرن السادس عشر، بدأ دور القوزاق في المنظومة العسكرية والأمنية الروسية في ازدياد، وفق ما يشرحه فينكوف، قائلاً في حديث لـ"العربي الجديد": "بدأ القياصرة الروس بدعوة القوزاق لأداء الخدمة وحراسة الحدود الجنوبية الروسية مع توفير المال والسلاح لهم، ولكن الاتصال كان يجرى عبر "بوسولسكي بريكاز" (تسمية وزارة الخارجية في روسيا القيصرية)".
ويضرب مثالاً بوقائع تكبد القوزاق خسائر عدة من الأتراك في النصف الثاني من القرن السابع عشر والمحاولة الفاشلة بقيادة ستيبان رازين للتمرد ضد القيصر فأدائهم قسم الولاء لروسيا بعدها في عام 1671، مشيراً إلى أن وضع القوزاق في القرنين السادس عشر والسابع عشر كان أشبه بالشركات العسكرية الخاصة بمفهومها المعاصر.