يكشف تحقيق "العربي الجديد" الاستقصائي عن عدم فعالية رقابة وزارة العدل العراقية على شركات تعاقدت معها لتوفير الطعام للسجناء، حتى وصل الأمر إلى تسمّم البعض، أو تجويعهم، ما يضطرهم إلى شراء أغذية غالية من الحوانيت.
- يتذكر السجين العراقي السابق حيدر عبدالله، ما حدث مع 30 من رفاقه في يوليو/تموز 2019، بعد تناولهم دجاجاً فاسداً في وجبة غداء سجن البصرة المركزي، ما أدى إلى تسممهم ومعاناة من إسهال شديد وقيء، حسبما يقول لـ"العربي الجديد"، وهو ما يؤكده علي النوري، معاون مسؤول وحدة الخدمات الصحية المساندة لمؤسسات الإصلاح التابعة لقسم الصحة العامة في دائرة صحة البصرة، قائلاً لـ"العربي الجديد": "توقعنا لدى نزولنا إلى السجن لإسعاف المصابين أنها حالات إصابة بالكوليرا، لكن فيما بعد، تأكدنا من خلال إجراء الفحوصات أن الإصابات نتجت من الطعام".
وعلى مدى خمس سنوات من سجنه، عانى عبدالله الذي أُفرج عنه في يناير/كانون الثاني الماضي، من رداءة طعام السجن، ما يضطره وزملاءه إلى شراء الطعام من حانوت السجن بأسعار مضاعفة، قائلاً بمرارة: "يقدم للسجناء قطعتا جبن فاسد وصمونتان وشوربة كأنها ماء في وجبة الفطور، وعند الغداء يقدمون مرق الفاصولياء وطبق أرز وقطعة لحم متعفنة ذات رائحة كريهة، ووجبة العشاء عبارة عن طبق حميس"، ويستدرك: "لم أكن أتناول الكثير من طعام السجن"، وهو ما جعل الستينية العراقية أم علي (اسم مستعار خشية تعرض نجلها لأذى في سجن البصرة) تحرص على إعداد طعام له، كما تقول لـ"العربي الجديد"، مضيفة: "عندما أزور ابني يحدثني دائماً عن حاجته للطعام الصحي بسبب سوء التغذية بالسجن وحتى عدم نظافة الأواني".
وفي إحدى زيارات أم علي لنجلها المسجون منذ عام 2018، دفعت 50 ألف دينار (34 دولاراً)، مقابل إدخال الطعام له، رغم أن قيمة الطعام الذي أعدته في منزلها بمنطقة الكرمة شمال محافظة البصرة لا تتجاوز عشرة آلاف دينار (7 دولارات)، كما تقول، مستدركة: "لا يهمني المبلغ الذي سأدفعه ما دام ابني سيأكل طعاماً نظيفاً وصحياً، لكننا نُمنَع من إدخال الطعام لإجبار السجناء على الشراء من الحانوت".
تلاعب بالطعام
بلغ عدد المحكومين والموقوفين في مقرات الاحتجاز وسجون دوائر الإصلاح العراقية التابعة لوزارة العدل والداخلية حتى 23 مايو/أيار 2021، نحو 73715 سجيناً وموقوفاً، منهم 51776 محكوماً، وفق آخر احصائية أجرتها المفوضية العليا لحقوق الإنسان بالعراق (هيئة مستقلة)، بحسب ما يوضحه علي البياتي، عضو المفوضية لـ"العربي الجديد".
وتتلقى المفوضية حوالى 15 ألف شكوى من منظمات وأهالي السجناء سنوياً، تتعلق برداءة الطعام وسوء المعاملة والتعذيب، وفق تأكيد البياتي. ووثقت المفوضية، عبر تقييم واقع طعام السجون في تقاريرها السنوية للأعوام (2018 و2019 و2020)، تراجعاً واضحاً على مستوى توفير طعام النزلاء والموقوفين والمودعين، بالإضافة إلى سوئه، وخلص تقريرها السنوي لعام 2020، من خلال الزيارات الدورية والمتابعة المستمرة وإجراء المعاينة المباشر للأطعمة والأغذية المقدمة للسجناء في سجون بغداد والمحافظات العراقية الأخرى، إلى 14 استنتاجاً، منها رداءة الطعام وقلته ورداءة الأواني التي يقدم وينقل فيها الطعام في معظم السجون ومرافق التوقيف الاحتياطي، وتستخدم أحياناً قناني المياه الفارغة أو الأكياس البلاستيكية لوضع الطعام والشاي، وعدم التزام متعهد الإطعام الجدول الذي يتضمن أصناف الطعام، ويجري استبدال بعض المفردات أو عدم توافرها أصلاً دون اتخاذ الإجراءات التي رسمها القانون في حال استبدال مادة معينة بأخرى، فضلاً عن وصول وجبات الطعام (الإفطار والغداء والعشاء) في وقت واحد مع عدم وجود أجهزة لحفظ الأغذية، الأمر الذي قد يؤدي إلى تلف بعضها، وعدم الاهتمام الجدي للكوادر الصحية بالمراكز الصحية داخل السجون أو الكوادر الزائرة بإجراء تقييم دوري للطعام المقدم ومدى ملاءمته للحالة الصحية للسجناء، عملاً بأحكام المادة (16/سابعاً/أ) من قانون إصلاح النزلاء والمودعين رقم 14 لسنة 2018.
ويؤكد ناجي حرج، المدير التنفيذي لمركز جنيف الدولي للعدالة (غير حكومية مقرها سويسرا)، تلقيهم شكاوى من عوائل عراقية أبناؤها في السجون، مفادها بأن وجبات الطعام رديئة جداً، والمؤسف أن بعض السجناء يُحرمون حتّى هذه الوجبات الرديئة"، ويضيف: "تسلمنا ما بين 2018 و2020 مائة شكوى عن حالات مختلفة، تتعلق بمعتقلين ومسجونين من سنوات ما بعد 2006".
ويعتمد مركز جنيف على التواصل مع عوائل معتقلين، وعلى رسائل المعتقلين والسجناء الذين يطلق سراحهم. وتبين بعد فحص تلك الادعاءات والمناشدات أن ما يجري لا يتعلق بعدد محدود من السجناء، بل هو حالة عامة تمسّ معظم السجناء، حسبما يقول حرج، مضيفاً أن الشكاوى تتعلق بمعظم السجون، وفي مقدمتها الموجودة في بغداد والأنبار والموصل والناصرية والبصرة.
وعلى الرغم من إنزال وزارة العدل لجاناً إلى السجون للتأكد من مدى صلاحية الطعام الذي يقدمه متعهدو الطعام إلى السجناء، إلا أن إدارات السجون تشدد على السجناء بخصوص عدم التحدث عن الطعام أمام لجان وزارة العدل، وفق تأكيد السجناء الذين وثق معهم معد التحقيق، ومنهم السجين السابق حيدر عبدالله، الذي قال: "لدى زيارة لجنة من وزارة العدل للاطلاع على الوضع العام في السجن في أحد الأيام، أبلغتنا إدارة السجن أن نخبر اللجنة إذا ما سُئلنا عن الطعام بأنه ممتاز. لكنني تعمدت إخفاء طعامي لكي أُريه للجنة، وعندما سألونا عن الطعام، الجميع قال إنه جيد، إلا أنا قدمت لهم ذلك الطعام الفاسد"، مضيفاً: "عندما خرجت اللجنة قام عناصر أمن السجن بتعذيبي، وما زلت أعاني حتى اليوم من كسر في منطقة الصدر".
بخلاف أم علي التي تحجم عن التقدم بشكوى خشية على نجلها: "كيف نشتكي ضد جهة هي نفسها المسؤولة عن تقديم الطعام للسجناء؟". تسأل أم علي، بينما تستدرك قائلة: "لو اشتكينا، فإنهم سيسيئون التعامل مع ابني، أنا متأكدة أنهم سيقومون بتعذيبه وحرمانه الطعام الذي هو أصلاً غير جيد".
شركات تقديم الطعام تخلّ بالتزاماتها
تتعاقد وزارة العدل العراقية التي تدير 36 سجناً ومؤسسة تأهيل للأحداث ودور ملاحظة (يوقف فيها الأحداث تمهيداً لإجراء محاكمتهم) مع شركات خاصة، ويحدد بموجب العقد كمية ونوعية الغذاء الذي يقدم للنزلاء والمودعين والموقوفين، وفق تقرير أوضاع حقوق الإنسان في العراق الصادر عام 2020، والذي يؤكد تعاقد وزارة العدل مع 4 شركات في بغداد والكرخ، هي "شركة المؤمل وشركة ميس الريم لتجهيز المواد الغذائية" لتقديم الطعام لسجناء التاجي ومجمع العدالة، شمال العاصمة، والأخيرتان شركتا "إشراقات الوادي ونسيم الصباح" لتقديم الطعام في جانب الرصافة ومجمع التسفيرات (مركز احتجاز)، بالإضافة إلى تعاقدات مشابهة في كل محافظة.
لكن تلك الشركات لا تفي بالاشتراطات المتفق عليها قانوناً، إذ تنص المادة (12- ثانياً/ ب) من قانون إصلاح النزلاء والمودعين رقم 14 لسنة 2018، على أنه "يشترط في طعام النزيل والمودع أن يكون صحياً وكافياً ومناسباً لديانة ومعتقد النزيل أو المودع"، حسبما يقول البياتي، مضيفاً أن من شروط التعاقد مع الشركات أن يكون الطعام بكميات كافية ووجبات محددة مع توفير الفواكه واللحم، والاهتمام بالجانب الصحي.
شركات توفير الطعام للسجناء تخل بالعقود الموقعة مع وزارة العدل
ما سبق يؤكده زياد السنجري، المتحدث باسم مرصد أفاد (يُعنى برصد وتوثيق الانتهاكات الإنسانية والمخالفات القانونية في العراق)، قائلاً: "شركات تقديم الطعام للسجناء لا توفر 10% من مفردات الطعام التي وردت في العقود الموقعة مع وزارة العدل"، مشيراً إلى وجود سجناء في سجن التاجي شمالي العاصمة العراقية بغداد، وسجن الحوت المركزي في مدينة الناصرية جنوب شرق العراق لا يتجاوز وزنهم أربعين كيلوغراماً، وهذا الوزن وفقاً للمعايير العالمية غير طبيعي.
ما سبق يطابق ما وثقه مرصد أفاد في 24 أغسطس 2021، إذ توجد حالات جوع شديد بين نزلاء سجن التاجي، مستنداً إلى إفادة سيدة عراقية (لم يذكر اسمها لأسباب تتعلق بأمنها الشخصي)، أكدت أن ابنها لم يكن يعاني من أي مرض قبل الاعتقال الذي حصل على الشبهة خلال حملة نفذتها قوات حكومية دون أوامر قبض قضائية، ونُقل من سجن المطار إلى سجن التاجي قبل نحو سنة ونصف، وعندما كان في سجن المطار لم يكن يعاني من أي مرض، وكان على اتصال مع أهله.
وخلال مقابلتين مع والدته في سجن التاجي، أخبرها من خلف سياج (سيم) أنه يعاني من الجوع. وتوفي بعد أيام من زيارة والدته له في السجن، وفق تأكيد سنجر لـ"العربي الجديد".
متعهدو الحوانيت يستغلون السجناء
تجبر رداءة الطعام الحكومي السجناء على شراء ما يباع في الحوانيت بأسعار مضاعفة عما هو عليه الحال في الخارج، وفق ما وثقه معد التحقيق عبر إفادات ثلاثة سجناء سابقين، منهم حيدر عبدالله، الذي يقول: "كنت أشتري كيلو الطماطم بألفي دينار (1.37 دولار)، بينما سعره بالسوق 500 دينار (أقل من نصف دولار)، والحال نفسه مع بقية المواد الموجودة في الحانوت، كنت أعرف بأسعار السوق من زوجتي التي كانت تزورني بين حين وآخر".
رداءة طعام السجن تجبر النزلاء على شراء أغذية غالية الثمن من الحوانيت
وهو ما لاحظه البياتي من خلال زياراته لبعض السجون العراقية، إذ تصل أسعار المواد الغذائية في حوانيت سجون وزارة العدل إلى ثلاثة أضعاف سعرها الحقيقي في الأسواق المحلية، وفق قوله، مضيفاً: "تحدثنا مع أصحاب الحوانيت حول غلاء الأسعار، لكنهم يتهربون من الإجابة، وعندما ناقشنا الأمر مع إدارات السجون، برروا ذلك بأن الأسعار مقررة من دائرة الإصلاح العراقية، ولا يمكن التلاعب بها نهائياً"، وتابع: "وجود متعهدي الطعام يفتح نافذة لاستغلال السجناء مالياً".
ويجري الاستحواذ على المساعدات المالية التي تقدّمها العوائل لأبنائها المسجونين، إذ يأخذ القائمون على السجون تلك الأموال كرشوة، مقابل السماح للسجين بالتواصل مع أهله أو قضاء أوقات أطول خارج زنزانته لدى زيارتهم له في السجن. كذلك يُصادر الطعام من قبل السيطرات المنتشرة خارج السجن، إن لم تدفع العوائل الزائرة مبالغ مالية، بحسب تأكيد ناجي حرج، المدير التنفيذي لمركز جنيف الدولي للعدالة.
ويؤكد سنجر بيع بعض المواد الغذائية للسجناء بثمانية أضعاف سعرها الحقيقي في الأسواق المحلية، ما يثقل كاهل النزلاء ومن ليس لديه نقود يُتَّصَل بذويه وتؤخذ النقود من عائلته، معلقاً بالقول: "هذا أمر مؤسف"، ويستدرك: "طالبنا الحكومة العراقية عبر بيانات رسمية آخرها يوم الثلاثاء 24 أغسطس 2021، بالتدخل فوراً لإيقاف الانتهاكات الجسيمة التي تحدث في سجني التاجي والحوت (الناصرية المركزي)، لكنها لم تفعل شيئاً"، وهو ما حدث مع الثلاثيني العراقي مهند عبد الحسين، سجين سابق في سجن بغداد المركزي، أفرج عنه نهاية العام الماضي، إذ يقول لـ"العربي الجديد":" كان أهلي يحاولون إدخال الطعام لي، لكن المسؤولين عن التفتيش لم يسمحوا لهم بذلك، إلا إذا دفعت لهم مبلغاً مالياً، أو كانت لدينا وساطة، وللأسف لم يكن لدينا أي وساطة. وأحياناً لا يصل الطعام إليّ، بل يتقاسمونه فيما بينهم".
وتواصل معد التحقيق مع وزير العدل العراقي، القاضي سالار عبد الستار، للحصول على حق الرد عمّا جاء في التحقيق، لكن الوزير رفض، قائلاً: "موضوع لا يتعلق بكم".