استمع إلى الملخص
- **التحديات أمام العائدين**: أحمد صالح يواجه منافسة من ابن عمه طارق، سيف الإسلام يواجه خليفة حفتر، وجمال مبارك يواجه رفض المؤسسة العسكرية المصرية رغم الحنين الشعبي.
- **الحنين إلى الماضي**: المفكر حسن أوريد يشير إلى أن الحنين لعهد الاستبداد يعود لتلاعب الحكام السابقين بعقول الشعوب، مما يثير تساؤلات حول مستقبل أبناء الحكام المخلوعين.
عاد أبناء الرؤساء الذين اقتلعتهم عاصفة الربيع العربي غير المتوقعة، جمال مبارك وأحمد علي عبد الله صالح وسيف الإسلإم معمر القذافي، إلى واجهة المخيال الشعبي وتفاعلاته الحقيقية أو الموجهة على مواقع التواصل كما في الأحاديث العامة المروجة لنوعية الحاكم "الملائم لشعوبنا"، بعبارات مثل "الذي نعرفه خير ممن لا نعلم عنه شيئاً"، و"القادم من بيت حكم وخبر ألاعيب السلطة، أفضل ممن يأتي ليتعلم فينا" و"لا يصلح لشعوبنا إلا من يزجرها ويغلق باب الوطن ليؤدب الجميع ويربيهم"، وغيرها من الأوهام المجربة والفاشلة في عهد الآباء، ومع ذلك ما تزال تعشش في العقل الجمعي الممتلئ بالمتناقضات والأضداد، ليس على المستوى الشعبي فقط، بل للأسف بين النخب الذين يمكنهم بقليل من المنطق والتفكير الناقد التأكد من استحالة تلاقي ثنائيات الاستبداد والاستقرار والأدهى العدل، أو الديكتاتورية والعقل، وقبلهم الجمهورية وتوريث الحكم.
من وجهة نظرهم هذه "ريمونتادا - La Remontada" أو عودة قلبت نتيجة المباراة بلغة كرة القدم، وبالتأكيد يرونها مستحقة أو طبيعية بعد 13 عاماً من مواجهة حشود الحالمين بإعادة رسم مستقبل المنطقة، والتي أجهزت على آمالهم في تولي السلطة خلفاً لآبائهم في محاولة لم يكتب لها النجاح من أجل تحويل تلك الأنظمة من "جملوكيات" طاردة لأهلها وفاشلة اقتصادياً وأمنياً ومجتمعياً وسياسياً إلى جمهوريات حقيقية وليست أشباه دول.
أحدث العائدين أحمد علي عبد الله صالح، فإثر جهود رئاسية يمنية ودعم سعودي وإماراتي، قررت لجنة العقوبات التابعة لمجلس الأمن الدولي نهاية يوليو/تموز الماضي، إزالة اسمه ووالده الراحل من قائمة العقوبات التي فُرضت عليهما قبل عشر سنوات، كما قال عضوا مجلس القيادة الرئاسي طارق صالح ابن عم أحمد وعثمان مجلي في تعليقهما على الخبر، وبالتأكيد له ما بعده، يقول أنصار أحمد الذي كان قائداً لقوات الحرس الجمهوري والقوات الخاصة المكلفة بمحاربة الإرهاب، أيام حكم والده حتى إزاحته من المنصب في عام 2013 ومن ثم تعيينه سفيراً لليمن لدى الإمارات التي بقي فيها بعد عزله في عام 2015 من منصبه، والذي يراه هؤلاء لم يعد صالحاً له ولن يكتفي بالعودة إليه، بعد حروب خاضها والده من أجل تسليم الكرسي إليه، وزج فيها بمنافسيه وأبرزهم علي محسن الأحمر، في محاولة لم يكتب لها النجاح بالتخلص منه في صعدة أثناء الصراع مع الحوثيين.
يروج أنصار أحمد أنه لم يشارك في أي جرائم ضد الشعب، وأنه تحدث مع والده في أيام الثورة الأولى عام 2011 لمنع استهداف المحتجين، وبالنسبة إليهم هو الأكثر خبرة وفهماً لكيفية إدارة بلد مليء بالانقسامات مثل اليمن، وهي بالطبع خرافات أثبتت تجربة والده في الحكم فشلها، فالمستبد وإن دانت له البلاد والعباد أعواماً متواليات، لكن الانفجار ما يلبث أن يحدث سواء في عهده أو مع تولي نجله والدليل تشظي البلاد شمالاً وجنوباً وشرعية وحوثيين وقبائل ومناطق، وكلها يموت أهلها جوعاً ومرضاً بعد عقود من توحيد صالح الشكلي لها وكأنك "يا بو زيد ما غزيت". وفي حال لا يكفي المثال يمكن التدبر في حال سورية التي أصبح جيش نظامها رابع أقوى قوات مسلحة في بلاد الشام بعد الروسي والإيراني والتركي والأمثلة كثيرة لمن يعقل ويتدبر.
صحيح أن صالح الابن تخلص من العقوبات والجنرال علي الأحمر الذي فقد نفوذه بعد إعفائه من منصبه وتقاعده في السعودية في عام 2022، لكن طريقه ليس ممهداً فابن عمه طارق صالح قائد الحرس الخاص بحماية رئيس الجمهورية واللواء الثالث مدرع حرس جمهوري أثناء فترة حكم الأب الراحل، يقود اليوم ما يسمى بقوات المقاومة الوطنية وأصبح عضواً في مجلس القيادة الرئاسي في 7 إبريل/نيسان 2022، وبالتأكيد تحت يده من الرجال والمال والنفوذ ما يفوق أحمد، ولن يسمح له بتجريده من كل هذا أو إبعاده من طريقه إلى قمة الشرعية التي تعد الكيان الثالث في اليمن المنقسم إلى ثلاثة أجزاء تضم الحوثيين والمجلس الانتقالي الجنوبي، بعدما كان دولة واحدة قضى عليها الأب باستبداد وظلم انفجرا في وجهه وقتلاه كما دمرا كل منجز سبق أن قام به خلال حكم امتد 34 عاماً.
قبل صالح الابن، عاد نجل القذافي سيف الإسلام من بوابة الانتخابات الرئاسية نهاية عام 2021، وقتها قدم أوراق ترشحه، رغم أنه ما يزال مطلوباً منذ مايو/أيار 2011 إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم إنسانية ضد شعبه الذي كان يستعد لوراثته من الوالد بعد تكليفه في عام 2009 بمنصب منسق القيادة الشعبية الاجتماعية، أي أنه صار الرجل الثاني في البلاد بعد توليه مسؤولية المرجعية العليا للنظام الجماهيري الذي كان أكثر نجاحاً من نظيره اليمني في تدمير البلاد، وتحويلها إلى كيانات فوضوية ومليشيات إجرامية تنهب حجماً هائلاً من الموارد كان يكفي لانتشال الليبيين شرقاً وغرباً وجنوباً من فقر بلغت نسبته 40% جراء الاستبداد والفساد.
التحدي الأكبر في طريق سيف الإسلام، في نمط متكرر بين الحالة الأولى والثانية، هو خليفة حفتر قائد مليشيا الشرق المتعاون مع الروس، ومع ذلك تصفه دعاية ماكينة القذافي الابن بـ "الأميركي"، وهو عسكري تحت يده من عوامل القوة ما يجعله طامعاً في حكم البلاد بأكملها. وما الذي يجعله يتنازل لسيف أو غيره، أليس الأحق لأنه "من سبق لبق" كما يقول المثل النجدي، أي أن مَن وَصل أوّلاً أولى بالظفر والحصول على الجمل بما حمل له ولذريته التي وزع عليها مناصب عسكرية ومالية وصنع منها أسرة بديلة للقذافي الأب قائده الأعلى السابق الذي خدمه وانشق عليه، لكن الدكتور كما يطلق أنصار سيف الإسلام عليه (كانت أطروحته في جامعة لندن عن كيفية تحسين الديمقراطية العالمية!)، لا يرى لحفتر أو غيره حقاً في تلك المساحة الشاسعة الغنية بأجود أنواع النفط، وظهر مرتدياً عباءة والده مادياً ومعنوياً مستدعياً ذكراه، ليحتفي به الأنصار ويرددوا ألم يخبركم الرجل إبان ثورتكم في عام 2011 أن البلاد ستنقسم؟ وكأن ما وقع ليس جراء استبداد الأب الذي قتل خيرة النخب الليبية وزج بالباقين في سجون سرية، وبعدها تفرغ لإهدار موارد البلاد على الإرهاب شرقاً وغرباً، ونشر ما يسمى بالفكر الجماهيري والكتاب الأخضر وغيرها من الترهات التي سرعان ما اختفت فور إزاحته، ولم يبقَ منها أثر سوى ما آل إليه الوضع الذي يعيشه الليبيون حالياً، ويريد الابن أن يسير على دربه ويسرّع سقوط الدولة بلا قاع ولا قرار.
الوضع في مصر يختلف قليلاً، لكون بنية البلد والمجتمع ليست قبائلية وعشائرية مثل الحالتين السابقتين وبالتالي الدولة متماسكة ولم تنقسم، لكن التراجع الاقتصادي الكبير منذ 2013، والتي ظن قطاع من المصريين، عواماً ونخباً، بها خيراً، ولم يكن لديهم أي مشكلة في صيغة الحكم الأوتوقراطي الفردي والتنكيل بخصومهم، فإذا بهم يدفعون ثمنها عبر استدانة النظام المتوالية وتراجع مستمر في قيمة العملة، وتضييق على كل صاحب رأي أو رواية مخالفة للنظام، حتى وإن كان داعماً له وساهم في ترسيخ أقدامه، وهنا بدأ الحنين يشتد إلى زمن مبارك، والذي كان يعد جمال ليخلفه ولم يعد سراً أن المؤسسة العسكرية كانت رافضة للأمر، ومن ثم لم تقف في وجه ثورة 2011 التي أنهت آمال الابن الذي تنادي به صفحات على مواقع التواصل رئيساً مثل "الحملة الشعبية لدعم السيد / جمال مبارك رئيساً لمصر"، ويتم الاحتفاء به وشقيقه علاء الأقل انخراطاً في السياسة والأكثر اشتباكاً على مواقع التواصل مع الجماهير، لدى الظهور في المناسبات العامة ونجد من ينادون جمال بـ"الريس" ويرددون "البلد خسرتكم والله"، وكأن ما آل إليه الوضع ليس محصلة استمرار الأب في الحكم 30 عاماً بذات أساليب صالح والقذافي مع فارق الشكل والتنفيذ، حتى إن أهل الحكم في "الجمهورية الجديدة" يشتركون مع المعارضين في التصريح بأن البلاد تدفع ثمن استمراره الطويل في الحكم.
في حالة مبارك الابن الطريق ليس سالكاً كذلك، فمن رفض توليه الحكم قبل 2011، حتى اليوم ما يزال على موقفه وفي مكانه، وحتى إن كان نجل الرئيس، لكنه مدني وليس من المؤسسة الحاكمة منذ يوليو/ تموز 1952 وليس له ولا لغيره أن يطمع بالوصول إلى كرسي السلطة المحمي بالجنرالات، وهي العقدة الأكثر صعوبة أمامه بسبب بنية الدولة المصرية وتقاليدها الفرعونية والأكثر مركزية وتعقيداً من الحالتين اليمنية والليبية.
لا شك أن بيننا من يحن إلى الاستعباد الطوعي الجديد كما يسميه المفكر المغربي حسن أوريد في كتابه "إغراء الشعبوية في العالم العربي"، ويعد أبناء الرؤساء وعودتهم إلى المجال العام، علامة على تغلغله في العقل العربي، بعدما هندس الآباء طريقة تفكير الشعوب وتلاعبوا بها عبر تقليل مستوى التوقعات الحياتية والاقتصادية والمجتمعية إلى أقصى درجة ممكنة، حتى إنك تجد من يريد إعادة سيرة ثبت فشلها وجربناها من قبل وهل يجرب المجرب إلا من كان عقله مخرباً؟ وهذا الخراب في المنطق والتفكير يعود بالأساس إلى مجهوداتهم الحثيثة في تدمير التعليم والثقافة، والتي ندفع ثمنها حتى اليوم باستمرار الحنين إلى عهودهم والأمل باستنساخها عبر الأبناء، فهل تكون الأعوام المقبلة بداية زمنهم؟