استمع إلى الملخص
- **إحصائيات القتلى المدنيين ومساعي العدالة:** بين 2009 و2020، قُتل 3340 مدنياً في غارات جوية، وأصيب 2588 آخرون. الولايات المتحدة قدمت مليوني دولار كتعازي، وما زال ذوو الضحايا يبحثون عن العدالة.
- **التعويضات البريطانية وتحديات العدالة:** حزب "Afganistan Intellectually Committed" جمع ملفات لـ 2600 مدني، ودفعت وزارة الدفاع البريطانية 27.3 مليون جنيه إسترليني، لكن المدفوعات للضحايا الأفغان بلغت فقط 5.4 مليون جنيه إسترليني.
حصل بعض ذوي الضحايا المدنيين الأفغان على تعويضات هزيلة تراوحت بين 500 و1000 دولار أميركي، بعدما فقدوا أحباءهم على يد القوات الأميركية، بينما ما يزال الأكثرية يبحثون عن العدالة وهو ما تكرّر على يد الجيش البريطاني.
- لا يُفارق مشهدُ قتل الشاب الأفغاني شمس الرحمن عقلَ والده الخمسيني سيد عبيد الله، الذي يذكر تفاصيل ما جرى في هذا اليوم على يد الجيش الأميركي، فالابن لم تكن له أي صلة بالجماعات المسلّحة التي قالت الولايات المتحدة إنّها جاءت لمحاربتها منذ عام 2000 وحتى مطلع 2021.
وقعت الحادثة منتصف يوليو/ تموز 2013، حين داهم الجيش الأميركي منزل عبيد الله، وعندما لم تجد القوات أحداً به، انتقلت إلى حقله في قرية شامرد بمديرية سانجارك الواقعة في إقليم سربل شمالي أفغانستان، وبينما كان الأب والأم والابن يعملون، فوجئوا بالقوات أمامهم، وسرعان ما قيّدوا أياديهم ثم أخذوا شمس الرحمن بعيداً حتى غاب عن أنظارهم، وفجأة دوّى وابل من الرصاص، ما يزال صوته في أذن عبيد الله الذي يقول إنه لن ينسى تلك اللحظات ما حيي.
ما وقع لشمس الرحمن تتحمّل القوات الأميركية مسؤوليته، خاصة أنّها كانت "تمثّل الغالبية العظمى من القوات الدولية في أفغانستان، وتورّطت في أغلب الحوادث التي تنطوي على إصابات بين المدنيين"، بحسب تقرير "تركوا في الظلام"، الصادر عن منظمة العفو الدولية في 11 يونيو/ حزيران 2014، والذي استند إلى "مقابلات أجريت في يوليو 2013 ومارس/ آذار 2014 مع 125 من أفراد أسر الضحايا وشهود عيان على 16 هجوماً أسفرت عن إصابات بين المدنيين، وأكدت المراجعة الشاملة أن ممارسات التحقيق والمقاضاة التي انتهجتها القوات الأميركية أقل بكثير مما كان مطلوباً لضمان المساءلة عن الجرائم ضد المدنيين، بعدما درست بالتفصيل عشر حالات وقعت خلال الفترة بين 2009 و2013، حيث كانت قوات الولايات المتحدة المسؤولة عن القتلى المدنيين بصورة أساسية، ومعظمهم من خلال غارات جوية أو مداهمات ليلية. فقتل 140 مدنياً على الأقل في هذه الحوادث، بما في ذلك نساء حوامل وما لا يقل عن 50 طفلاً. وبعض الحالات تنطوي على أدلة وافرة ودامغة على جرائم حرب ومع ذلك، لم تُحمَّل مسؤولية ما حدث لأحد".
وتتقاطع المعلومات السابقة والإفادة مع شهادات عشرة من ذوي الضحايا المدنيين الذين يوثّق التحقيق بحثهم عن العدالة، رغم مرور أعوام على قتل الأهالي على يد القوات الدولية والأفغانية، والتي تتحمّل مسؤولية 3340 مدنياً قتلوا في غارات جوية شنتها قواتها، بالإضافة إلى إصابة 2588 مدنياً خلال الفترة من 2009 حتى سبتمبر/ أيلول 2020، بحسب إحصاء تقرير "ارتفاع عدد القتلى المدنيين في أفغانستان بسبب الغارات الجوية"، الصادر عن معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة (مركز أبحاث متعدد التخصصات في جامعة براون الأميركية) في السابع من ديسمبر/ كانون الأول 2020.
ألف دولار ثمن القتيل الأفغاني!
بعد عامين من مقتل شمس الرحمن، تلقّى والده عبيد الله اتصالاً هاتفياً من مكتب حاكم إقليم سربل، أخبره بأن لديه خبراً سارّاً وطلب منه الحضور إلى مقره، وبعد إجراءات التفتيش المعتادة وجد أجانب ومسؤولين محليين يجلسون إلى جوار الحاكم، الذي ألقى إليه مغلفاً (ظرف) في داخله مساعدة مالية، وطلب منه التوقيع على استلام المبلغ، ليوجّه أحد الأجانب الموجودين إليه حديثاً بالإنكليزية، ومما قاله وفق المترجم "إنه حزين لمقتل ابنه، وإن عليهم مساعدة ذويه"، كما يقول الأب لـ"العربي الجديد": "وجدت في الظرف ألف دولار أميركي، قبلت المبلغ وانصرفت، وقتها كنت أعاني مادياً بشكل كبير".
وتؤكد الإفادات التي جمعها "العربي الجديد" حصول ضحايا القوات الأميركية على مبالغ هزيلة منحها لهم شيوخ القبائل والقادة المحليون، تراوحت بين 500 وألف دولار أميركي، كما يقول الزعيم القبلي في إقليم سربل محمد داوود محمد لـ"العربي الجديد".
و"قدمت الولايات المتحدة خلال الفترة بين عامي 2015 و2019 مليوني دولار للضحايا، تعبيراً عن التعازي والتعاطف وحسن النية"، وليس كوسيلة للتعويض أو إصلاح الوضع، بحسب ما جاء في تقرير معهد واتسن، والذي لفت إلى مفارقة كون عدد القتلى المدنيين جراء الضربات الجوية الأميركية وكذلك التحالف الدولي وصل خلال الفترة ذاتها إلى 1357 قتيلاً، مؤكداً أن "بعثة الأمم المتحدة للمساعدة في أفغانستان نسبت 546 حالة وفاة و209 إصابات إلى الضربات الجوية للقوات الدولية في عام 2019، وفي الأشهر التسعة الأولى من عام 2020 أسفرت الضربات الجوية للقوات الدولية عن مقتل 83 وإصابة 27 مدنياً في 24 حادثة، فيما تحصي الولايات المتحدة 97 حالة وفاة و59 إصابة بسبب الضربات الجوية الأميركية".
3340 مدنياً قتلوا في عمليات للقوات الدولية والحكومية
وعلى الرغم من ضآلة المبالغ التي حصل عليها البعض تعبيراً عن التعازي، فإنّ تسعة من أهالي الضحايا الذين قابلهم مُعدّ التحقيق لم يتلقّوا أي أموال، ومن بينهم سيف الله محمد الذي تعرض منزله في منطقة خوجياني بولاية ننغرهار شرقي أفغانستان لقصف من الطيران الأميركي في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2007، وقتل على إثره خمسة من أفراد عائلته، بينهم أخواه وأمه، كما قتل 30 شخصاً في المنازل المجاورة بالقصف ذاته، كما قال لـ"العربي الجديد".
ما يعني أن "هذه المبالغ ليست سوى ذرّ للرماد في عيون المكلومين"، كما يصفها عضو البرلمان الأفغاني السابق رمضان بشر دوست (مستقل)، مضيفاً لـ"العربي الجديد": "هذه القضية المهمة لم تغلق بعد وتحتاج إلى آلية واضحة وجلية لتقديم التعويضات لذوي القتلي والمصابين".
حصل ضحايا القوات الأميركية على تعويضات هزيلة
وهو ما يؤكده الناشط الحقوقي الأفغاني محمد مدثر صافي قائلا لـ"العربي الجديد": "على حكومة طالبان أن تثير هذه القضية وتعمل من أجلها لأن لديها القدرة الكاملة والسيطرة على البلاد، ولديها بعض الإحصائيات الخاصة بالأفراد المنتمين إليها بشكل مباشر أو غير مباشر، والمدنيين الذي تعرضوا لقصف القوات الأميركية وقوات التحالف عموما".
وفي سياق رده، يؤكد المتحدث باسم حركة طالبان ذبيح الله مجاهد، أن ما جرى بشأن الضحايا لا تطمئن له الحكومة، لكنها تصر على دفع التعويضات للضحايا، مشيرا إلى أن القضية تحتاج إلى جهة ثالثة محايدة تقوم بإجراء المسح وجمع الأرقام ثم محاسبة من كل الجهات التي ارتكبت الجرائم بحق الشعب الأفغاني.
تضارب في حجم التعويضات البريطانية
جمع حزب Afganistan intellecully commeted ملفات لـ 2600 مدني من ضحايا قصف القوات البريطانية في أفغانستان خلال الفترة بين يناير/ كانون الثاني 2007 وحتى ديسمبر 2014، كما يقول رئيسه محمد سليم بيكير، الذي يتابع الملف قانونياً في المحكمة الملكية البريطانية Royal Courts of Justice in London، قائلاً لـ"العربي الجديد": "مستمرون في البحث عن الضحايا وتقديم ملفاتهم إلى المحاكم المختصة في الدول التي شاركت في الحرب"، لكن المشكلة بنظره تكمن في المال اللازم لتلك العملية، ما يحد من جهودهم، خاصة أن الضحايا بالآلاف، إذ قتل في حادث واحد 60 مدنياً من أسر مختلفة.
واستند بيكير في جمع ملفات تلك القضايا إلى روايات الضحايا وأسرهم، والزعامات القبلية، حسب تأكيده، قائلا: "يجرى فحص الملفات المقدمة من أهالي الضحايا والتحقق بشأنها قبل تقديمها للمحاكم، فضلا عن البحث عن محاميين في دول أعضاء التحالف ضد الإرهاب التي ارتكبت جرائم بحق المدنيين في أفغانستان".
وترد وزارة الدفاع البريطانية على ما سبق بالقول إنها تعاملت مع المطالبات التي تم تقديمها عبر طرف ثالث ضد وزارة الدفاع، مؤكدة في ردها المكتوب على أسئلة "العربي الجديد" أن مسؤول مكاتب مطالبات المنطقة في أفغانستان كان مخولاً بالتعامل مع المطالبات المدنية الموجهة ضد وزارة الدفاع خلال السنوات المالية بين أعوام 2006 - 2007 وحتى 2014 - 2015.
وبناء على الفئة (1) من الدعاوى المدنية دفعت تعويضات عن 17 مطالبة فردية تتعلق بوفاة أو إصابة مدني منذ الأول من يناير 2003، فيما دفعت تعويضات عن مطالبة فردية واحدة تتعلق بأضرار في الممتلكات، كما دفعت تعويضات بناء على الفئة (2) ووصلت إلى أربعة آلاف مطالبة فردية تتعلق بوفاة أو إصابة مدني أو أضرار في الممتلكات، بحسب الرد المكتوب، الذي أشار إلى دفع 27.3 مليون جنيه إسترليني تعويضات متعلقة بمطالبات وفاة أو إصابة مدني رُفعت في المملكة المتحدة، و2245 جنيهاً متعلقة بمطالبات أضرار في الممتلكات.
وتشمل هذه المدفوعات عناصر متعلقة بحقوق الإنسان، إذ تم دفع نحو 7.3 ملايين جنيه إسترليني من قبل مكاتب المطالبات بالمنطقة في العراق وأفغانستان، هبةً لوفيات المدنيين أو المصابين منهم، أو تعويضاً عن الأضرار التي لحقت بالممتلكات، بحسب الرد المكتوب.
وأقل دفعة عن وفاة أو إصابة مدنيين هي 50 دولاراً، وأعلى دفعة 1.5 مليون جنيه، وتتضمن مدفوعات دورية سنوية مستمرة، وفق تأكيد الرد المكتوب لوزارة الدفاع، موضحاً أن أقل دفعة عن الأضرار التي لحقت بالممتلكات هي 10.27 دولاراً، وأعلى مبلغ هو 232.400 دولاراً.
لكن تقرير "فاتورة تعويضات المملكة المتحدة عن الأضرار المدنية في أفغانستان والعراق" المنشور في الموقع الرسمي لمركز وقف إطلاق النار لحقوق المدنيين (مبادرة دولية تهدف إلى رصد انتهاكات القانون الدولي الإنساني) في ديسمبر 2021، يؤكد أن إجمالي المدفوعات للضحايا الأفغان بلغت خمسة ملايين و400 ألف جنيه إسترليني، موضحاً أن وزارة الدفاع البريطانية ما زالت تفتقر إلى سياسة فعالة للتعامل مع المطالبات.
ويتفق بيكير، مع التقرير مشيراً إلى أن الحكومات الغربية التي ارتكبت قواتها جرائم بحق المدنيين لا ترغب في التعاطي مع ملف التعويضات، كما أن بعض أسر الضحايا لا يمكنها التواصل مع حزب التحالف الفكري بينما يحتاج إلى تكوين ملف مفصل لكل ضحية، والبعض لا يرغبون لاعتقادهم بعدم جدوى المطالبة بالتعويضات.
متعطشون للعدالة
"يترك انعدام العدالة إرثاً خطيراً من الاستياء بسبب الإفلات من العقاب، إذ أكد معظم الضحايا وأفراد الأسر الذين تحدثت إليهم منظمة العفو الدولية أنهم متعطشون للعدالة أكثر من أي شيء آخر، ويجب على الولايات المتحدة ألا تواصل تجاهلها لمناشداتهم في رؤية العدالة تتحقق"، وفق ما نشره الموقع الرسمي للمنظمة في 13 أغسطس/ آب 2014.
وبالرغم من مرور تلك الأعوام ما يزال الأهالي غير قادرين على الوصول إلى من يساعدهم من أجل إيصال صوتهم للجهات المسؤولة في الدول التي انتهكت حقوقهم، فضلاً عن عدم وجود مكاتب للمؤسسات الإنسانية في المناطق النائية الأفغانية، كما يقول خايسته خان الذي روى لـ"العربي الجديد" ما حدث لعائلة ابن عمه في عام 2014، قائلاً: "قتل 12 شخصاً من عائلة أفضل خان، نتيجة قصف طائرات أميركية لمنزله في مديرية خوجياني شرقي أفغانستان"، وقبل عامين توفى ابن العم الذي كان قد نجا من القصف، وبالتالي لم يعد هناك من يتقدم بالقضية إلى أي جهة مخولة بالبحث عن حقيقة ما حدث وتقديم الجناة للعدالة وتعويض ذوي القتلى.
وهو ما تكرّر مع محمد إلياس خان الذي فقد ثمانية من أفراد عائلته في قصف أميركي على منزله في ولاية خوست شرقي أفغانستان في ديسمبر 2016، والذي يقول لـ"العربي الجديد": "خمسة من كبار الأسرة قتلوا في تلك الحادثة وبقي الأطفال والشباب، وهؤلاء يكافحون من أجل الحصول على لقمة العيش ولا يعرفون شيئاً عن أي آلية للتعويض أو محاكمة المتورطين، لكنهم وغيرهم من ذوي الضحايا غير قادرين على تجاوز ما جرى، إذ خلقت تلك الهجمات آثاراً نفسية ومعيشية كارثية على الأهالي"، ومن بينهم زوجة سيد عبيد الله التي أصيبت بحالة نفسية بعد مقتل نجلها شمس الرحمن أمامها، كما يقول الأب، مضيفاً بألمٍ: "توفيت الزوجة بنوبة قلبية بعد عام من مقتل ابننا البكر، لم تتحمل الصدمة".