يكشف التحقيق تبعات فشل المنظومة الصحية العراقية في تشخيص فيروس كورونا، ما تسبب في فقدان مرضى لحياتهم وانتقاله لذويهم في متوالية تسهم في تفسير لماذا حل العراق في المرتبة الأولى عربيا من حيث عدد الإصابات خلال موجات الجائحة.
- اكتشفت الصحافية العراقية أمل صقر بعد تعافيها، من فيروس كوفيد - 19 في يوليو/تموز الماضي، إصابتها بتليف رئوي (يحدث بسبب تلف الأنسجة ويصعب أداء وظيفة الرئتين) نتيجة تأخر العلاج بعد تشخيص خاطئ في مستشفى الراهبات الأهلي ببغداد والذي لجأت إليه عقب شعورها بآلام في الحلق وارتفاع درجة الحرارة، وبحسب رواية الأربعينية صقر فإن طبيبة الطوارئ المناوبة، لم تقم بفحصها سريريا بل وصفت لها مضادا حيويا ومسكنا ومقويات، وأحالتها إلى مختبر المشفى الذي أجرى لها فحص كورونا السريع (رابيد تيست)، وكانت نتيجته حينئذ سالبة، وبالفعل عادت إلى بيتها واختلطت بأسرتها ظنا منها بأنها غير مصابة، لكن وضعها الصحي تدهور بعد عدة أيام ما دفعها إلى زيارة عيادة خاصة شخصت الأعراض وتأكدت من كونها مصابة بكورونا، ومن وقتها بدأت بالعلاج لكن بعد تفاقم معاناتها ما أدى إلى تبعات صحية مستمرة، حتى بعد أن تماثلت للشفاء، وكبدها تكاليف كبيرة وصلت إلى 1600 دولار أميركي خلال شهرين كما تقول.
كيف تقع أخطاء التشخيص؟
يقوم بروتوكول التشخيص المعتمد والمعمم بكتب رسمية على رصد العلامات المرضية والفحص السريري بالدرجة الأولى، وفق ما يوضحه المتحدث الرسمي لوزارة الصحة العراقية سيف البدر، مضيفا أن الاعتماد على الفحص المخبري في عملية التشخيص تشكل أهميته 15% فقط، ويجب أن تعتمد المؤسسات الصحية فحص بي سي آر للتأكد من الإصابة وليس الفحص السريع الذي يستخدم احيانا عند الحاجة لفحص ميداني خاصة أن نتائجه تظهر خلال دقائق، ويشمل البروتوكول المعمول به التوصية بحجر من تظهر عليه الأعراض حتى في حال لم تؤكد المسحة الأولى إصابته، وفق البدر.
مخالفة بروتوكول تشخيص كورونا ساهمت في انتشار المرض
لكن تحقيق "العربي الجديد" وثق عبر خمس حالات وصلت إلى مرحلة حرجة بسبب أخطاء التشخيص، عدم الالتزام بالبروتوكول المقرر، وهو ما مرت به معدة التحقيق وزوجها أيضا، إذ شعر الزوج بأعراض المرض في 20 سبتمبر/أيلول عام 2021، وذهب إلى طبيب متخصص بالأمراض الصدرية والتنفسية، لكنه شخص حالته بأنها مجرد "نزلة برد" واصفا قلقه بـ"الهوس"، ولم يطلب منه إجراء فحص كورونا ووصف له مسكنات في المرة الأولى، وعندما أخذت الأعراض تتفاقم من سعال إلى آلام في المفاصل وارتفاع في درجة الحرارة، وبدأت زوجته تعاني من ذات الأعراض قرر الزوجان إجراء فحص كورونا في المختبر الحكومي التابع لمستشفى الديوانية التعليمي وتبين أن النتيجة موجبة، لكنهما كانا قد نقلا الفيروس لاثنين من الأطفال وتفاقمت الأعراض.
واستمرت محاولات العلاج على مدى شهرين، جرى خلالهما التردد على أطباء مختلفين واستخدام أدوية متعددة، وأصبحت معدة التحقيق تحتاج الأوكسجين بشكل مستمر، بسبب انخفاض نسبته في الدم مع سعال جاف مستمر وشبه شلل بالأطراف وصداع قوي، وباتت تتخوف من الموت بسبب الفيروس، وتستذكر الصحافية منار الزبيدي وفاة أولاد عمها وصديقات لها في المستشفى بسبب الفيروس قائلة: "ماتزال صورهم إلى جانب تلك القناني لا تفارقني".
فوضى الفحوصات
تعود أخطاء التشخيص إلى إهمال بعض الأطباء أو نقص الخبرة أو ضعف المهارات، وأحيانا استغفال المريض، وفق ما رصده الدكتور محمد علي الغريفي المتخصص بالأمراض الصدرية، خلال عمله في مستشفى الديوانية التعليمي، موضحا أن أعراض الإصابة تتضح بالفحص السريري وإجراء الفحص المخبري، ولا بد للطبيب من التعامل مع الحالات بدقة، وكذلك اعتبار كل حالة انفلونزا إصابة محتملة بكورونا حتى يثبت العكس خاصة مع عدم نهاية الوباء.
لكن الطبيبةُ لم توص مريضتها صقرَ بحجر نفسها، وتضمن العلاج الموصوف لها بنادول وفيتامين سي، والمضاد الحيوي Zamur (له تأثير مضاد للجراثيم)، وفيتامين دي ثري (vitamin D3). وبحسب الطبيب المختص بأمراض الصدر والجهاز التنفسي عبد الرحيم البدري والذي يعمل في مستشفى الديوانية التعليمي، فإن هذا العلاج مناسب للمصابين لكن في الأيام الأولى من المرض، أو المشتبه في إصابتهم بالفيروس، موضحا أن العلاج الذي يصفه الطبيب للمريض يعتمد على وضعه الصحي، إذ توجد 3 مستويات، بسيط ومتوسط وشديد، والعلاج الممنوح لصقر لا يمكن أن يكون ناجعا للمرضى في الحالات المتوسطة والشديدة، مؤكدا أن التأخر في معالجة الحالة تسبب بمضاعفات خطيرة أبرزها الالتهاب الرئوي الحاد والذي يمكن أن يفضي إلى الموت.
وفي رده على "العربي الجديد" يوضح المسؤول في إدارة مستشفى الراهبات (والذي تحتفظ العربي الجديد بتسجيل المقابلة الخاصة به كونه طلب عدم إعلان اسمه) أن الطبيبة شخصت حالة صقر على أنها أعراض كورونا وأعطتها علاجا تحفظيا لحين التأكد من الإصابة.
حل العراق في المرتبة الأولى عربياً من حيث عدد إصابات كورونا
لكن اعتماد المشفى على الفحص السريع أعطى نتيجة خاطئة، لذلك تمنع وزارة الصحة استخدامه في تشخيص الإصابة كما يؤكد مدير عام الصحة العامة في وزارة الصحة رياض الحلفي، إلا أن المسؤول في إدارة مستشفى الراهبات يبرر استخدامهم هذا الفحص بأنهم لم يحصلوا على موافقة وزارة الصحة لاستخدام فحص بي سي ار، وهو ما يؤكده معاون المسؤول الإداري لمستشفى الفرات الأوسط الأهلي عماد محمد، موضحا أنه يمنع استخدام فحص بي سي آر أو فحص كورونا السريع من قبل المستشفيات الخاصة أو المختبرات الاهلية ماعدا التي تسمح لها الوزارة، وعادة ما تقوم المستشفيات الاهلية بإجراء فحص بي سي آر لدى المختبرات الحكومية، وفي حالة صقر لم تحولها الطبيبة لإجرائه.
وتسببت فوضى الفحوصات أيضا في تدهور صحة الخمسيني حيدر عبدالواحد من محافظة الديوانية جنوب بغداد، والذي نصحه فني مختبر أهلي بإجراء فحص التيفوئيد بسبب وجود أعراض مثل الصداع وارتفاع الحرارة، وأخذ عبدالواحد علاجا ومسكنات معتمدا على هذه المشورة، ولكن وضعه الصحي بدأ يسوء، فراجع طبيبا أوصى بإدخاله إلى المشفى وإجراء فحص بي سي آر، بحسب زوجته، وخلال انتظار النتيجة كان يرقد في قسم العزل بمستشفى الديوانية الحكومي دون تلقي أي علاج وفق شقيقه عدي عبد الواحد، حتى ساء وضعه الصحي وانخفض مستوى الأوكسجين في الدم، في ظل معوقات حالت بين الأسرة وتأمين الأوكسجين له.
لكن عبدالواحد فارق الحياة صباح اليوم التالي لظهور نتيجة الفحص والتي تبين أنها موجبة في الخامس من يونيو/حزيران الماضي، واستنادا إلى تقرير الوفاة الذي حصلت عليه "العربي الجديد" فإن الالتهاب الرئوي الحاد نتيجة إصابته بفيروس كورونا يعد سبب وفاته، وبين التقرير أن عدد أيام الإصابة أكثر من أسبوع.
الأخطاء التشخيصية تهدد النظام الصحي
ما هي آثار تأخر العلاج؟
ينقذ التشخيص الدقيق وفق البروتوكول المعتمد المصابين من الألم والموت أيضا، كما يخفف الأعباء المالية والضغوطات على المنظومة الصحية المرهقة، بحسب إفادة الغريفي والذي يؤكد من خلال عمله في مشفى الديوانية أن التشخيص الخاطئ واستمرار اختلاط المريض بمحيطه ظنا منه بأنه غير مصاب أسهم بشكل كبير في تفشي الفيروس وزيادة أعداد المصابين، وهذه نتيجة بديهية بسبب عدم الحجر، وهو ما يثبته التحقيق من خلال الحالات التي تأخر تشخيصها بالفيروس، ونقلوا العدوى لأسرهم مثل صقر والزبيدي وعبدالواحد.
وبسبب هذه الفوضى يرى مصادر التحقيق أن الأمر يسهم في تفسير لماذا جاء العراق في المرتبة الأولى عربيا من حيث عدد الإصابات بكورونا و37 عالميا، وبلغ مجموع الإصابات 2.244.610 حالة، وعدد الوفيات 24.499، حتى 6 فبراير/شباط 2022 وفقا لما وثقه موقع worldmeters الإحصائي، إذ تربط منظمة الصحة العالمية قدرة بلدان العالم على إنهاء الوباء بمدى التزامها بالأدلة والاستراتيجيات ورسم طريقة للخروج من المرحلة الحادة للوباء باتباع نهج تدريجي دقيق، ويشمل الأمر تخفيض الوفيات من خلال الإدارة السريرية القوية، والتشخيص الدقيق، مع التركيز على التلقيح بخاصة للفئات الأكثر عرضة للخطر، كما توضح المنظمة في ردها المكتوب على "العربي الجديد".
وتعود أغلب حالات التشخيص الخاطئ أو المتأخر إلى أخطاء تتعلق بتقييم الطبيب المختص، أو مراجعة المريض لطبيب غير متخصص، وأحيانا يتعلق الخطأ بظروف وطريقة أخذ المسحة ونوعية المواد المستخدمة في أجهزة فحص بي سي آر، كما يؤكد الغريفي.
ويمكن أن يتعرض المصاب بالفيروس في حال تأخر العلاج والخضوع للرعاية الصحية لأعراض خطيرة، تبدأ بفقدان المناعة شيئا فشيئا، ويصبح معرضا للإصابة بالتهاب رئوي وآخر بكتيري وتسمم دموي وضيق بالتنفس بسبب نقص الأوكسجين وتخثر الدم، كما يؤثر الفيروس على أعضاء الجسم الأخرى كالدماغ والكليتين، وتزيد هذه المضاعفات نسبة الوفاة، لكن 80% من الحالات يمكن أن تُشفى داخل المنزل مع توفير عوامل الرعاية الصحية المطلوبة كلما كان اكتشاف المرض وتشخيصه مبكرا، بحسب توضيح الدكتور البدري.
ويرد المتحدث باسم وزارة الصحة قائلا إن "الخطأ وارد"، ويحدث في كل دول العالم، مضيفا أن وصف التشخيص بـ"الخاطئ" يعد قرارا فنيا وقانونيا، ولا يمكن الاعتماد على أقوال المرضى أو ذويهم، مشيرا إلى أن الوزارة لم تحصر عدد الشكاوى المتعلقة بالأخطاء التشخيصية، علما بأن صقر كانت قد قدمت شكوى إلى وزارة الصحة عن طريق مسؤولة العلاقات العامة في الوزارة والتي أبلغتها بأنها حولت الشكوى إلى الجهة المعنية في الوزارة.